مواقف ألمانيا مع الاحتلال الإسرائيلي .. امتداد لجرائم الإبادة المتشابهة .. التفاصيل المروعة ما بين أفريقيا وغزة
متابعات /
بعد ما يقارب القرن من الزمن اعترفت ألمانيا بمسؤوليتها عن الإبادة الجماعية في ناميبيا، لكنها رفضت تحمل مسؤولية ذلك وجبر الضرر، وهذا يفسر وقوفها إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي الذي يمارس الإبادة ذاتها في غزة.
ينظر الكثير من العرب والمسلمين – خصوصاً الفئات المثقفة والسياسية التي تأثرت بأفكار الغرب وقيمه – باستغراب إلى الدعم المالي والعسكري والدبلوماسي والإعلامي، وبالمتطوعين والمرتزقة، الذي يقدمه هذا الغرب، لدولة مارقة وكيان إرهابي يمارس الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، وهو الذي كان بالأمس القريب يعطي دول الجنوب وحكوماته دروساً في حقوق الإنسان واحترام العهود والمواثيق الدولية.
مواقف ألمانيا مما يجري في غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 صدمت الكثيرين ممن ظنوا أن هذه الدولة قد قطعت مع التطرف العنصري منذ الحرب العالمية الثانية ليتفاجأوا بانخراطها الكلي في دعم كيان الاحتلال، ووقوفها إلى جانبه في الدعوى التي رفعت ضده في محكمة العدل الدولية عام 2024 بسبب ارتكابه الإبادة الجماعية بحق الغزاويين.
كان صادماً تصريح وزيرة الخارجية الألمانية نالينا بيربوك، بمناسبة مرور عام على أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر، والذي بررت فيه صعوبة تفادي المدنيين في غزة، وأكدت فيه أن “أمن إسرائيل جزء أساسي من وجود ألمانيا الحالية، وحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها هو مسؤوليتنا أيضاً”. وأضافت “الدفاع عن النفس يعني بالطبع تدمير الإرهابيين، وليس مهاجمتهم فقط”، زاعمة أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) “تختبئ في التجمعات المدنية والمدارس”.
هذه المواقف المدانة دفعت ناميبيا إلى تذكير ألمانيا بتاريخها الاستعماري والإبادة الجماعية التي ارتكبتها بحق السكان الأصليين في هذا البلد.
ناميبيا
تقع جمهورية ناميبيا في جنوب غرب قارة أفريقيا، وتقدر مساحتها بنحو 824292 كيلومتراً مربعاً، تحدّها شمالاً أنغولا وزامبيا، وشرقاً بوتسوانا، وجنوباً جنوب أفريقيا، التي تحدها أيضاً من الشرق، وغرباً المحيط الأطلسي.
تتميز ناميبيا بتنوعها الثقافي واللغوي، إذ يتحدث سكانها الذين يقدر عددهم بنحو مليونين و642 ألف نسمة (تقديرات عام 2023)، ما يقرب من 16 لغة ولهجة. لكن تظل الإنكليزية اللغة الرسمية في هذا البلد، الذي يتبنى نظام حكم ديمقراطي تعددي، ويدين ما يقرب من 90% من سكانه بالديانة المسيحية.
ناميبيا الألمانية
التركيبة البشرية في وسط ناميبيا مكونة من هيريرو، ناما، باستر، دامارا، خويسان وأوفامبو… حوالي عام 1840، وهي السنة التي وصل فيها أول المبشرين الألمان إلى ناميبيا، كانت معظم هذه الدولة تحت سيطرة الكابتن أورلام جونكر أفريكانر وأتباعه. لكن في عام 1861، انهارت هيمنة أورلام مقابل صعود نجم كاماهاريرو نجل تجامواها. الذي دخل في صراع مع هندريك ويتبوي الزعيم الذي نجح في توحيد عشائر ناما وأورلام في الجنوب.
وفي عام 1883، وقع التاجر الألماني “فرانز أدولف إدوارد لودريتز” والزعيم جوزيف فريدريك زعيم مدينة بيثاني في جنوب ناميبيا اتفاقية أعطت لرجل الأعمال لودريتز حق استغلال المناطق المحيطة بميناء طبيعي استراتيجي كان يسمى في ذاك الوقت “انجرا بيكينا” تحوّل اسمه إلى “لودريتز”. في هذه المنطقة، أنشأت الحكومة الألمانية أول محمية للمستوطنين الألمان البيض.
عُين ثيودور لوتفين حاكماً لـ “جنوب غرب أفريقيا” (ناميبيا)، فبدأ بالتفاوض بشأن معاهدات الحماية مع المجتمعات المحلية، لكنه في الآن نفسه حارب كل الذين رفضوا الحماية الألمانية. فشن هجوماً كبيراً على هندريك ويتبوي الذي سيوقع معاهدة الحماية بعدما هزمه الألمان. وفي السابع من أغسطس/آب 1884 أعلنت ألمانيا رسمياً ناميبيا محمية تابعة لها تحت اسم “جنوب غرب أفريقيا”.
في 21 تشرين الأول/أكتوبر 1885 قام ماهاريرو زعيم هيريرو بتوقيع معاهدة حماية مع الحاكم الاستعماري الألماني هاينريش إرنست غورينغ (والد هيرمان غورينغ قائد قوات الطيران الألمانية النازية) لكنه لم يتنازل عن أرض هيريرو. في هذه السنة، اندلعت اشتباكات بين الجنود الألمان الذين تم نشرهم لحماية المستوطنين وبعض القبائل الناميبية في مقدمتهم هيريرو وناما.
وفي سنة 1895 تشكلت قوة الحماية الألمانية أو (Schutztruppe)، التي ضمت أكثر من 15 ألف جندي ألماني للدفاع عن المصالح الألمانية في جنوب غرب أفريقيا، وقمع أي معارضة ضد الإدارة الاستعمارية في المنطقة. وقد استخدمت هذه القوة غالباً أسلوب “الأرض المحروقة” ولم تميز قط بين المقاتلين وغير المقاتلين. كما قاد المستوطنون الألمان حملة طرد جماعي للسكان الأصليين، حيث أجبروهم على ترك أراضيهم واستولوا عليها وعلى مواشيهم بالقوة، وحوّلوهم إلى عبيد في خدمتهم.
في منتصف عام 1889، هبطت قوات ألمانية في المستعمرة، بقيادة كيرت فون فرانسوا. وفي عام 1890 أبرم صامويل نجل ماهاريرو صفقة جديدة تتضمن منح الألمان مساحة كبيرة من الأراضي هيريرو مقابل دعمه في مواجهة أعدائه من القبائل الأخرى. لكن، عندما فهم صموئيل ماهاريرو، ابن كاماهاريرو، وهندريك ويتبوي مدى التهديد الاستعماري لبلادهم وحّدوا قواهم.
وفي مواجهة هذه الجبهة الموحّدة، شنّ كيرت فون فرانسوا هجوماً مفاجئاً على معسكر ويتبوي ليلة 12 نيسان/أبريل 1893 فذبحت القوات الألمانية نحو 75 امرأة وطفلاً واغتصبت النساء، وأرسلت الناجيات إلى العمل القسري، وصادرت الأراضي والماشية. وعلى الرغم من كل هذا العنف، لم يتمكن فون فرانسوا من إخضاع ويتبوي.
مع بداية القرن العشرين، وصل إلى ناميبيا ما يقرب من 5 آلاف مستوطن ألماني عملوا منذ وصولهم على السيطرة على نحو 250 ألفاً من السكان الأصليين ومصادرة أراضيهم ومواشيهم واستعبادهم. كان المستعمر الألماني ينظر إلى الأفارقة الأصليين باعتبارهم مصدراً للعمالة الرخيصة.
ثورة الهيريرو والناما والإبادة الجماعية
أدت السياسات الاستعمارية إلى ثورة هيريرو في كانون الثاني/يناير 1904؛ لسببين،الأول، ارتبط بسياسة تحصيل الديون، التي فُرضت في تشرين الثاني/نوفمبر 1903. فلسنوات، اعتاد سكان هيريرو اقتراض الأموال من التجار البيض بأسعار فائدة عالية. وعندما يعجز معظمهم عن الوفاء بالدين، تصادر أراضيهم ومواشيهم. في هذا الصدد، أرغمت سلطات الحماية الهيريرو على التنازل عن أكثر من ربع مساحة أراضيهم البالغة 130 ألف كيلومتر مربع للمستعمرين الألمان عام 1903.
أما السبب الثاني فهو علم الهيريرو بخطة تقسيم أراضيهم بخط سكة حديد، ونية الألمان في إقامة محميات لجمعهم فيها. فحملوا السلاح ضد المستعمر الألماني وقتلوا 123 ألمانياً، كما حاصروا بقيادة الرئيس صامويل ماهاريرو أوكاهاندجا وقطعوا الصلات مع ويندهوك، العاصمة الاستعمارية.
عمل ثيودور لوتفين، الذي أصبح حاكماً عسكرياً لناميبيا الألمانية في عام 1894، على سحق الهيريرو الحاملين للسلاح. لكن، مع تصاعد حدة المقاومة، اضطر لوتفين إلى طلب تعزيزات من برلين، فقررت ألمانيا استبداله، وتعيين الجنرال لوثار فون تروثا خلفاً له كقائد أعلى لجنوب غرب أفريقيا في 3 أيار/مايو 1904. وصل تروثا إلى المستعمرة في 11 يونيو/حزيران 1904 مع تعزيزات عسكرية كبيرة قوامها 14 ألف جندي لإخماد “التمرد”.
في فجر يوم 11 آب/أغسطس 1904 حاصرت قواته المدججة بأحدث الأسلحة معسكر ووتربيرغ، حيث فر 50 ألفاً من الهيريرو مع زعيمهم صموئيل ماهاريرو.
هزمت قوات تروثا مقاتلي هيريرو في معركة ووتربيرغ وارتكبت الفظائع، دَونَها المرشد الألماني جان كلويت في البيان التالي: ” كنت حاضراً عندما هُزمت قوات هيريرو في معركة بالقرب من ووتربيرغ. بعد المعركة، قُتل جميع الرجال والنساء والأطفال الذين سقطوا في أيدي الألمان أو جرحوا بلا رحمة. ثم انطلق الألمان في مطاردة البقية، وقُتل كل من وجد على جانب الطريق وفي الصحراء. كان رجال الهيريرو غير مسلحين وبالتالي لم يكونوا قادرين على المقاومة. كانوا يحاولون فقط الهروب مع ماشيتهم”.
أما أولئك الذين تمكنوا من الفرار شرقاً إلى صحراء أوماهيكي (كالاهاري). فقد مات منهم الكثير بسبب الجوع والجفاف أو التسمم بمياه الآبار وقنوات الري التي سممها الألمان. كانوا يحاولون الوصول إلى بيشوانلاند البريطانية (بوتسوانا اليوم) بعد أن منعهم تروثا من العودة بإغلاقه الحدود مع الصحراء. وقد تمكن أقل من 1.000 منهم من الوصول إلى بوستوانا، حيث مُنحوا حق اللجوء من قبل السلطات البريطانية.. في وقت لاحق، عثرت الدوريات الألمانية على هياكل عظمية للهيريرو في حفر بعمق 13 متراً حُفرت في محاولة عبثية للعثور على الماء.
في 2 تشرين الأول/أكتوبر 1904، أصدر الجنرال لوثار فون تروثا “أمر إبادة” تلخصه رسالته إلى هيريرو خيّرهم فيها بين مغادرة المستعمرة أو القتل: “أرسل، أنا الجنرال العظيم للجنود الألمان، هذه الرسالة إلى هيريرو. لم يعد هيريرو رعايا ألماناً. لقد قتلوا وسرقوا وقطعوا آذان الجنود الجرحى وأجزاء أخرى من أجسادهم، وأصبحوا الآن جبناء للغاية بحيث لا يريدون القتال.. أعلن للشعب أن أي شخص يسلمني أحد الرؤساء سيحصل على 1.000 مارك و5.000 مارك من أجل صامويل ماهريرو. يجب على أمة الهيريرو الآن مغادرة البلاد. إذا رفضت، فسأجبرها على فعل ذلك بالأنبوب الطويل [المدفع]. سيُعدم أي من أفراد الهيريرو الذين يُعثر عليهم داخل الحدود الألمانية، مع أو من دون سلاح أو ماشية. لن أتجنب النساء ولا الأطفال. سأعطي الأمر بطردهم وإطلاق النار عليهم. هذه هي كلماتي لشعب هيريرو”.
تضامناً مع الهيريرو، انتفض الناما في جنوب البلاد، فقرر الجنرال فون تروثا في 23 نيسان/أبريل 1905جعلهم يلقون المصير نفسه.
بعد وفاة ويتبوي متأثراً بجرح أصيب به في ساحة المعركة في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1905، واصل قباطنة آخرون المقاومة: كورنيليوس فريدريكس من بيثاني، وسيمون كوبر من ناما فرانزمان، وجاكوب مورينجا، وهو زعيم كاريزمي من أصل مختلط من هيريرو وناما. وقد استسلم فريدريكس ورجاله في آذار/مارس 1906، فتم إيداعهم في معسكر الاعتقال بجزيرة “القرش Shark” السيئ السمعة.
استمرت الاشتباكات بين القوات الألمانية والمتمردين من شعبي هيريرو وناما بين 1904- 1907، وقد أبيد نحو 80 ألفاً (80%) من شعب هيريرو و 10 آلاف من شعب ناما (نحو 50%) وعدد غير معروف من البوشمن من قبل القوات الألمانية. عام 1907، توقفت الحرب لكن استمرت تداعياتها إذ أصدرت السلطة الألمانية في نهاية تلك السنة قراراً يمنع السكان المحليين من امتلاك الأراضي والماشية والخيول، وأُدمج من بقي من السكان المحليين في نظام للعمالة يخدم المصالح الألمانية بالأساس. كان ما جرى في ناميبيا أول إبادة جماعية في القرن العشرين.
بموازاة حملة التقتيل التي قادها الجنرال تروثا، قام حاكم المستعمرة فريدريش فون ليندكويست بجمع الهيريرو والناما في 5 معسكرات اعتقال أنشئت بأمر من المستشار الألماني برنارد فون بولوف ابتداء من نوفمبر/تشرين الثاني 1905، في أومبورو أو أوتجيهاينا، حيث عملوا في بناء السكك الحديدية، وفي معسكرات ويندهوك وسواكوبموند ولودريتزبوخت.
ظلت هذه المعسكرات مفتوحة حتى مطلع عام 1908. وكانت الظروف المعيشية فيها مزرية للغاية، ونسبة الوفيات فيها عالية بسبب المناخ القاسي وسوء التغذية والعمل القسري، خصوصاً معسكرات مدينتي “لودريتزبوخت” و”سواكوبموند”. وقد بلغ معدل الوفيات ذروته في جزيرة القرش، المتاخمة لمدينة لودريتزبوخت التي استأجرها الألمان من مستعمرة “كيب” البريطانية.
وحتى عندما تم إغلاق المعسكرات في عام 1908، قررت السلطات الاستعمارية عدم إطلاق سراح السجناء الناما ويتبوي ورحّلت 93 منهم من بينهم النساء والأطفال عام 1910 إلى مستعمرة ألمانية أخرى، الكاميرون، حيث لقي معظمهم حتفه بسبب العمل القسري والأمراض المدارية.
لم يقتصر الأمر على القتل والتعذيب، بل شمل أيضاً الضرر المعنوي حيث تم عرض أكثر من مائة شخص من المستعمرات الألمانية في حديقة تريبتاور خلال صيف عام 1896 باعتبارهم كائنات بدائية. كما شكلت رفات وجماجم الهيريرو والناما موضوع اهتمام العلماء الألمان الذين كانوا يطلبون من العسكريين الألمان الذين خدموا في المعسكرات بين عامي 1906 و1907 الاحتفاظ بجماجم رجال القبائل المذبوحين كاملة وبعثها إلى برلين لدراستها لإثبات اختلاف العرق الأبيض عن الأعراق الأفريقية.
اعتراف ألماني بالإبادة مع رفض جبر الضرر
بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، قررت عصبة الأمم منح الانتداب على ناميبيا لجنوب أفريقيا التي كانت تحت الحماية البريطانية. وفي أكتوبر/تشرين الأول 1966 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بإنهاء انتداب جنوب أفريقيا على ناميبيا، وهو القرار الذي رفضته جنوب أفريقيا، ما جعل المنظمة الشعبية لجنوب غرب أفريقيا “سوابو” تخوض كفاحاً مسلحاً، إلى حين نيل الشعب الناميبي استقلاله يوم 21 مارس/آذار 1990.
في عام 1985، اعتبر تقرير “ويتاكر” التابع للأمم المتحدة أن ما جرى في ناميبيا يمثل إبادة جماعية لشعوب هيريرو وناما. وفي أغسطس/آب 2018 سلمت ألمانيا لناميبيا 19 جمجمة، وعظاماً وفروة رأس، كانوا محفوظين في المستشفى الجامعي في برلين. كما اعترفت الحكومة الألمانية في 28 مايو/أيار 2021 رسمياً بارتكاب ألمانيا إبادة جماعية للسكان الأصليين في ناميبيا بين 1904 و1908م. لكنها رفضت النظر في جبر ضرر وتعويض أسر الضحايا.