غضبٌ أمريكي على جيبوتي: واشنطن تخسرُ القرنَ الإفريقي
متابعات| تقرير*:
كشفت أحداث غزة أن الولايات المتحدة بدأت تفقد نفوذها في بعض دول القرن الإفريقي، والتي كانت تاريخيًّا تدور في الفلك الأمريكي، مقابل تعزيز نفوذ كُـلّ من روسيا والصين.
وعلى رأس هذه الدول، جيبوتي، التي يعدّ ميناؤها الرئيسي، «جيبوتي»، أهم ميناء يصل المياه بقلب إفريقيا، فيما يقوم بالقرب منه ميناء دوراليه الذي يؤمّن عبور 30 % من تجارة النفط العالمية، وهو دفع جميع القوى الكبرى إلى استئجار قواعد عسكرية في منطقة أصبحت مسرحاً متعاظماً للصراع على النفوذ في بحر العرب والساحل الإفريقي الشرقي والمحيط الهندي.
وفي ظل تعاظم أهميّة الممرّات والمناطق البحرية في جغرافيا السياسة الدولية، وتحولها إلى وسيلة وهدف في سياسات الدول الخارجية والعسكرية، بما فيها تلك الجيبوتية، بدأ الإعلام الأمريكي، في الآونة الأخيرة، يسلّط الضوء على نظام الحكم في جيبوتي، باتّهامه بالتورّط في تمويل الإرهاب والتخادم مع إيران والصين التي لها قاعدة عسكرية في هذا البلد، هي القاعدة الوحيدة لها في الخارج. ويعتبر مطّلعون أن إثارة الشكوك الكبيرة حول حيادية جيبوتي من قبل واشنطن، بواسطة تسليط الضوء على علاقاتها بكل من الصين وروسيا وإيران وحركة «أنصار الله» في اليمن، ما هي إلا تمهيد لمرحلة لاحقة تمارس فيها واشنطن ضغوطاً عليها في محاولة لإعادتها إلى الفلك الأمريكي.
والجدير ذكره، هنا، أن للولايات المتحدة أَيْـضاً قاعدة عسكرية في جيبوتي تسمى «لومونييه»، وتُعد أكبر قاعدة أمريكية في إفريقيا والوحيدة الدائمة فيها، وتضم مركزاً أَسَاسياً لطائرات الشحن التابعة للجيش الأمريكي.
وتنبع أهميّة موقع القاعدة من إطلالة جيبوتي على مضيق باب المندب، الذي يُمثِّل المدخل الجنوبي للبحر الأحمر.
وهي تشارك حَـاليًّا بنشاط في التعزيزات التي ترسلها الولايات المتحدة إلى منطقة غرب آسيا لحماية إسرائيل من الردود المتوقعة من قبل محور المقاومة.
وفي إطار الحملة المستجدة على جيبوتي، ادعى «معهد الشرق الأوسط» في واشنطن، في تقرير، أن جيبوتي تعمل كقناة للنفوذ الصيني، وارتبطت بجهات فاعلة وصفها بـ«الخبيثة» مثل إيران و«أنصار الله»، واتهمها بالضلوع «في أنشطة مختلفة في السوق السوداء، بما في ذلك غسل الأموال، والتمويل غير المشروع، وتهريب النفط، والإتجار بالأسلحة».
ويسرد التقرير حوادث دالة على ذلك، منها قيام شركة جيبوتية بشحن 40 ألف صاعق كهربائي تُستخدم للمتفجرات في آب 2020، وآذار 2021.
وزعم أن قوات الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا، ضبطت 225 طناً من المواد الكيميائية المستخدمة في تصنيع المتفجرات والصواريخ، أثناء نقلها من قبل الشركة نفسها.
أكثر ما يغيظ الأمريكيين في الوضع الراهن، منح اليمن التجارة الصينية ممراً آمناً شاملاً لشحناتها
وكانت جيبوتي قد رفضت المشاركة في تحالف «حارس الازدهار» الأمريكي – البريطاني، فيما بدا لافتاً تصريح وزير خارجية جيبوتي، محمود علي يوسف، في بداية انخراط اليمن في جبهة إسناد غزة، حَيثُ رفض إدانة هجمات «أنصار الله» في البحر الأحمر وباب المندب «لأننا نعدّها إغاثة للفلسطينيين»، معتبرًا أن «علينا كلنا دعم فلسطين، لأن الأخ يدعم أخاه ولو بأضعف الإيمان، وجيبوتي لا تدين العمليات اليمنية لأنها واجب أخوي».
كما رفضت جيبوتي استخدام الجيش الأمريكي لقاعدة «لومونييه» في قصف الأراضي اليمنية، ولكنها سمحت للأمريكيين بتركيب نظام «باتريوت» للدفاع عن القاعدة.
أما أكثر ما يغيظ الأمريكيين في الوضع الراهن، فمنح اليمن التجارة الصينية ممراً آمناً شاملاً لشحناتها، ما أسهم في ارتفاع حركة الشحن في جيبوتي أَيْـضاً.
وتنظر القوات الأمريكية بحسرة إلى نمو حركة الحاويات المنقولة بكميات هائلة من موانئ البحر الأحمر إلى الموانئ التي تسيطر عليها «أنصار الله» في الحديدة غربي اليمن، وذلك باستخدام سفن مملوكة ومدارة من قبل جيبوتي.
وتسرّب وسائل إعلام أمريكية، من وقت إلى آخر، أن جيبوتي والصين تسمحان للسفن الإيرانية العسكرية بالرسو في القاعدة العسكرية الصينية في البلد الإفريقي، أثناء قيامها بمهمات استخباراتية لمصلحة «أنصار الله»، وبما يخدم هجمات الحركة على سفن الشحن في باب المندب والبحر الأحمر.
وخلافاً للمتوقّع، لم يعطّل التوتّر في باب المندب والبحر الأحمر، النشاط الاقتصادي لجيبوتي ودول إفريقية أُخرى.
إذ كشفت بيانات التجارة البحرية العالمية أن الشحنات التجارية والصادرات والواردات، بما فيها عمليات إعادة الشحن، شهدت زيادة كبيرة بين 2023 و2024، فيما زادت أحجام إعادة الشحن من 19 % فقط في أوائل كانون الأول 2023 إلى 60 % في نيسان 2024.
ووفقاً لمقابلة أجرتها وكالة «بلومبيرغ» مع رئيس شركة «موانئ جيبوتي والمنطقة الحرة»، أبو بكر عمر هادي، فقد استفادت جيبوتي من الفوضى في الجزء الجنوبي من البحر الأحمر والهجمات اليمنية على التجارة البحرية، في ما وصفه هادي بالقول إن «مصائب قوم عند قوم فوائد».
وبالعودة إلى ما قبل حرب غزة، فقد تأزّم الوضع بين جيبوتي ودول «التحالف العربي» بعد أن رفضت الأولى إنشاء قاعدة عسكرية لاستهداف الأراضي اليمنية عام 2015، واكتفت بمنح القوات السعوديّة والإماراتية حق استخدام منشأة عسكرية صغيرة في منطقة هاراموس بالقرب من القاعدة الأمريكية.
وسرعان ما اتخذت جيبوتي قراراً تصعيدياً تمثّل في إجلاء القوات الإماراتية والسعوديّة من هاراموس، بعد أن قام «التحالف» باستخدامها منطلقاً للعمليات على اليمن.
ولم يكن اليمن السبب الوحيد في تأزّم العلاقات بين دول الخليج وجيبوتي، بل أَدَّت الأطماع الإماراتية في السيطرة على ميناء دوراليه إلى تحويل سلطات جيبوتي، محطة حاويات دوراليه، لتكون تحت سلطة الحكومة الجيبوتية عام 2018، بعد أن طُوّر الميناء المذكور بواسطة شركة «موانئ دبي العالمية».
وجاءت خطوة جيبوتي ضد الإمارات على خلفية انتهاك الأخيرة سيادة البلاد ومخالفتها قواعد الاتّفاق المبرم بين الجانبين، في ما اعتبر وقتها خسارة مدوية لأبو ظبي في البحر الأحمر.
وتتميّز جيبوتي بأهميّة موقعها على الشاطئ الغربي لمضيق باب المندب؛ فهي تطلّ شرقاً على البحر الأحمر وخليج عدن، كما تطلّ على شبه الجزيرة العربية عبر اليمن الذي لا يبعد عن سـواحلها أكثر من 20 كيلومتراً، فيما تحيط بها إريتريا من الشـمال، وإثيوبيا من الغرب والجنوب، والصومال من الجنوب الشرقي.
* الأخبار اللبنانية