تدخل أمريكي لدفع الأوضاع في فنزويلا نحو تصعيد الفوضى وترجيح كفة الانقلاب
متابعات/ تقرير
على الرغم من أن المعارضة الفنزويلية أعادت مؤخراً تنظيم صفوفها ووحّدت نفسها لتصبح أقوى مما كانت عليه خلال تجربة الانقلاب مع غوايدو، إلا أن جميع المؤشرات تُرجِّح أن سيناريو غوايدو المكرر هذا مآله الفشل حتماً.
بأقل من 50 دولار للفرد في اليوم يمكنك أن تهدم بلداً بأكمله؛ هذا ما يحاول اليمين المتطرف القيام به في فنزويلا بدعمٍ وتدريب وتمويل من الولايات المتحدة وحلفائها. لقد أعلنت المعارضة منذ الـ 18 من يوليو/تموز الماضي، أي قبل عشرة أيام من الانتخابات، أنها لن تقبل بنتيجة لا تُنصِّب مرشحها رئيساً للبلاد، وكان واضحاً منذ ذاك الحين أن قوى اليمين المتطرف لديها خطة ذات مسارين للانقلاب على نتائج الانتخابات؛ استخدام أكاذيب حول احتيال الحزب الحاكم وتزويره للانتخابات من دون أي دلائل، إلى جانب الشروع في أعمال إجرامية ودفع المأجورين لإثارة العنف والفوضى في أنحاء البلاد.
وبحسب النتائج النهائية التي أعلنها “مجلس الاقتراع الوطني” في فنزويلا السبت الماضي، حقق الرئيس الحاليّ نيكولاس مادورو فوزاً في الانتخابات الرئاسية التي عقدت في الـ 28 من يوليو/تموز الماضي، وحصل على نسبة 51.9% من الأصوات مقابل 43.1% لصالح إدموندو غونزاليس، منافسه الرئيسي ومرشّح المعارضة.
يُذكر أن الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات جاء متأخراً بسبب هجوم سيبراني ضخم تعرضت إليه البلاد لأول مرة في تاريخها، ونتيجة ذلك حجب “مجلس الاقتراع الوطني” موقعه الإلكتروني لمدة من الوقت بهدف وقف محاولة الاختراق، وعقد الرئيس مادورو اجتماعاً موسّعاً مع عدد من القيادات العسكرية والمسؤولين الحكوميين يوم الثلاثاء الماضي أعلن فيه إجراءات أمنية رداً على خطة العنف التي يعتزم اليمين المتطرف الفنزويلي تنفيذها، إلى جانب إنشاء لجنة خاصة لتقييم نظامي الأمن والاتصالات التابعين لـ “مجلس الاقتراع الوطني” بمساعدة روسية وصينية مع تخصيص 10 ملايين دولار لمعالجة الأضرار الناجمة عن الهجوم.
وقدَّم الرئيس مادورو، يوم الأربعاء الماضي، دعوى قضائية إلى المحكمة العليا في فنزويلا يطلب منها إجراء مراجعة للعملية الانتخابية بهدف التحقق من صحة النتائج، وتعهَّد بأن الحزب الاشتراكي الموحّد والتنظيمات المتحالفة معه على استعداد لتقديم جميع بيانات التصويت التي بحوزتهم. وفي اليوم التالي قبلت المحكمة طلب مادورو واستدعت جميع المرشّحين السابقين في الانتخابات للمثول أمامها يوم الجمعة بهدف الاعتراف بنتائج الانتخابات، وحضر بالفعل جميع المرشّحين، باستثناء غونزاليس الذي لم يلتزم بالقانون.
محاولة الانقلاب بالعنف والفوضى
بعد إعلان النتائج الأوّلية للانتخابات في الـ 29 من يوليو/تموز الماضي، أقامت المعارضة مؤتمراً رفضت فيه زعيمتها ماريا ماتشادو الاعتراف بالنتائج الرسمية وأعلنت أن غونزاليس فاز بالانتخابات واستحوذ على 73% من الأصوات وأنه الرئيس القادم لفنزويلا، في مخالفة صريحة للنتائج الرسمية المنشورة.
ومباشرة بعد إعلان ماتشادو غونزاليس “رئيساً للبلاد”، خرج المئات من أنصار المعارضة إلى شوارع وأحياء المدن وميادين العاصمة كاراكاس للاحتجاج على النتائج الرسمية وليؤكدوا على ما ادّعته ماتشادو بأن غونزاليس هو الفائز بالانتخابات. وعلى مدار الأسبوع الماضي وخلال الأسبوع الجاري، شهدت البلاد أحداث عنف عديدة استهدفت تعطيل الحياة في البلاد ودفع عجلة الاقتصاد إلى التوقّف.
أقام أنصار المعارضة حواجز في شوارع مختلف المدن، واستخدموا الإطارات المحترقة والأحجار لإغلاق الطرق الرئيسية، وتوقفت حركة النقل على الطرق السريعة المحيطة بكاراكاس، وراحوا يفتشون السيارات والمارّة بحثاً عن أي من مؤيدي الرئيس مادورو لينكّلوا بهم، وأحرقوا وألحقوا الأضرار بمنشآت عامة في جميع أنحاء البلاد، تشمل مدارس ومستشفيات، ومرافق حكومية وأكثر من 12 جامعة، ومعالم أثرية منها تمثالين للرئيس الراحل هوغو تشافيز، إلى جانب إضرام النار بمقرّين للحزب الاشتراكي الموحّد.
أظهرت مقاطع الفيديو المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي أنصار المعارضة وهم يحملون السكاكين والأسلحة النارية ويهاجمون المارّة وضباط الأمن ويطلقون النار على مؤيدين للرئيس مادورو، إلى جانب عمليات نهب وسرقة في معظم أنحاء البلد وسطو على دراجات نارية تابعة لقوات الأمن؛ حتى الآن، وحسب البيانات الرسمية المتوفرة، هاجم المحتجّون نحو 3600 من قادة الحزب الاشتراكي الموحّد والنقابات العمّالية، وقُتل أكثر من 20 شخص، بينما أصيب أكثر من 400 بينهم ما لا يقل عن 90 ضابطاً وجندياً.
وجاءت استجابة الحكومة والحزب الحاكم والنقابات العمّالية والفلاحية في اليوم التالي من إعلان النتائج الأوّلية بالنزول إلى الشوارع بعشرات الآلاف في معظم أنحاء البلاد، وشهدت العاصمة كاراكاس تظاهرات مليونية من مؤيدي الرئيس مادورو خلال يوميّ الثلاثاء والأربعاء من الأسبوع الماضي، ومازالت جماهير الحزب الاشتراكي الموحّد والنقابات تجوب الشوارع إلى اليوم لتعلن تأييدها للرئيس مادورو ورفضها لمحاولة الانقلاب على الديمقراطية ونتائج الانتخابات.
وحسب البيانات الرسمية المنشورة، اعتقلت أجهزة الأمن حتى الآن ما يزيد عن 1200 شخص شاركوا في أعمال العنف التي قادتها المعارضة، ومن بين هؤلاء قيادات للمعارضة أبرزهم فريدي سوبرلانو من حزب “الإرادة الشعبية” الوسطيّ، إلى جانب العشرات من القيادات اليمينية المتطرفة من ائتلاف “المنصة الوحدوية” وأحزاب يمينية أخرى. وبحسب البيانات، لم يذهب معظم من جرى اعتقالهم إلى الانتخابات أصلاً، واعترف بعضهم بتلقّي تدريبات على مدار الأشهر الماضية في دول الجوار إضافة إلى تلقّي كل منهم ما لا يزيد عن 50 دولاراً يومياً لإثارة العنف والفوضى في أنحاء البلاد.
وأشار الرئيس مادورو في تصريحات عديدة له خلال اليومين الماضيين أن “أكثر من 80% ممن جرى اعتقالهم لديهم سجلات جنائية”، وأن معظمهم “مدمنون على المخدرات… وتلقّوا مبالغ مالية لقاء إحداث الفوضى في أنحاء البلاد”. وعلاوة على ذلك، أشار مادورو إلى تورّط العديد من السياسيين والشخصيات البارزة في “تمويل وتدريب هؤلاء الإرهابيين” من بينهم رجل الأعمال الأميركي الشهير إيلون ماسك، والرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، والرئيس السلفادوري الحالي نجيب بُقيلة، والرئيس الأكوادوري الحالي دانيال نوبوا، والرئيس الأرجنتيني الحالي خافيير مايلي، والرئيسين الكولومبيين السابقين ألبارو أوريبي وإيفان دوكي، إلى جانب حزب “فوكس” الإسباني اليميني المتطرف ورجل الأعمال الأميركي والعسكري السابق إريك برينس صاحب شركة بلاك ووتر للأمن العسكري.
الولايات المتحدة على الخط
أصدر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، يوم الخميس الماضي، بياناً جاء فيه “من الواضح للولايات المتحدة أن إدموندو غونزاليس أوروتيا فاز بأكبر عدد من الأصوات في الانتخابات الرئاسية التي جرت في فنزويلا… الآن هو الوقت المناسب لتبدأ الأطراف الفنزويلية مناقشات حول عملية انتقالية محترمة وسلمية وفقاً للقانون”. ومباشرة في اليوم التالي أصدر وزير الخارجية الفنزويلي، إيفان جيل، بياناً جاء فيه “فنزويلا ترفض التصريحات الخطيرة والسخيفة التي تهدف إلى تولّي دور السلطات الانتخابية في البلاد… ذلك يُظهر أن الولايات المتحدة تقود محاولة الانقلاب ضد فنزويلا”.
ومُذكِّراً بدور الولايات المتحدة في محاولة الانقلاب التي أعقبت الانتخابات الرئاسية في 2018، والتي اعترفت واشنطن خلالها بخوان غوايدو رئيساً مؤقتاً للبلاد، صرَّح الرئيس مادورو خلال اليومين الماضيين قائلاً إن “الولايات المتحدة عينت غوايدو جديداً هو إدموندو غونزاليس، القاتل والعميل لوكالة المخابرات المركزية والمتورط في قتل شخصيات دينية بالسلفادور خلال الثمانينات”، وأضاف “ألحق غوايدو ضرراً كبيراً بالبلاد، لكننا كنّا صبورين معه… والآن تجرؤ الولايات المتحدة على القول إن فنزويلا لديها رئيس آخر… إنهم يريدون فرض غوايدو ثانٍ، لقد عايشنا هذا الفيلم… وأما بالنسبة للفيلم الحالي، فإن صبرنا قد نفذ… ومصيره أن ينتهي قريباً”، وشدد قائلاً “يتعين على الولايات المتحدة أن تُبقي أنفها خارج فنزويلا”.
وفي معرض حديثه عن المفاوضات بين فنزويلا والولايات المتحدة، والتي كانت قد تعطّلت إثر استبعاد ماتشادو من إمكانية الترشّح في الانتخابات الرئاسية نهاية العامة الماضي، تعهَّد مادورو بأن فنزويلا “لن تقع في أيدي الفاشية والإمبريالية” وقال “إن الحوار مع الولايات المتحدة ممكن فقط على أساس احترام السيادة الفنزويلية”. وعلاوة على ذلك، نشر مادورو على حسابه في “إكس”، يوم الخميس الماضي، صوراً لوثيقة وقّعها مع مسؤولين أميركيين في قطر في شهر سبتمبر/أيلول من العام الماضي.
هذه الوثيقة تحدد الشروط المتعلقة بالتصويت الرئاسي الذي سيتم الاتفاق عليها بين الحكومة الفنزويلية والمعارضة في بربادوس بعد شهر واحد من توقيع الوثيقة مع واشنطن. وتعهَّدت الولايات المتحدة بإعفاء فنزويلا من العقوبات لمدة ستة أشهر، بما يسمح لواشنطن أن تتعامل مع قطاعي النفط والغاز في فنزويلا. ولكن سرعان ما تراجعت الولايات المتحدة وأعادت فرض العقوبات مرة أخرى في أبريل/نيسان الماضي بدعوى أن حكومة مادورو لم تَفِ بشكل كامل بالتزاماتها التي ينص عليها اتفاق بربادوس.
سيناريو غوايدو المكرر مآله الفشل
من المستبعد تماماً أن تنجح محاولة الانقلاب التي تجري الآن في فنزويلا. إن فُرص غونزاليس في النجاح الآن أقل بكثير من فُرص غوايدو خلال محاولة انقلاب 2018-2019. وبالرغم من أن المعارضة الفنزويلية أعادت مؤخراً تنظيم صفوفها ووحّدت نفسها لتصبح أقوى مما كانت عليه خلال تجربة الانقلاب مع غوايدو، إلا أن جميع المؤشرات تُرجِّح أن سيناريو غوايدو المكرر هذا مآله الفشل حتماً. هناك عدة اختلافات بين محاولتي الانقلاب السابقة والحالية.
أولاً، كانت معظم المعارضة مُقاطعة للانتخابات في عام 2018، ما أعطى لها مُبرراً دولياً في محاولة الانقلاب بعد ذلك، أما اليوم فلقد شاركت كل المعارضة في الانتخابات وخسرت بوضوح رغم عدم اعترافها بالهزيمة، ومشاركتها هذه تجعل من موقفها الدوليّ أقل قوّة من ذي قبل، وهو ما يتضح من حجم وعدد المواقف الدولية المؤيدة لها، والتي هي أقل بكثير حالياً من تلك التي أيَّدت الانقلاب السابق.
ثانياً، كانت كولومبيا خلال إدارة إيفان دوكي القاعدة الرئيسية التي تدرَّب فيها الأفراد والعناصر المسلحة التي قادت أحداث العنف خلال انقلاب غوايدو، لكنها اليوم مع إدارة الرئيس غوستافو بيترو تعترف بمادورو رئيساً وتساهم في القبض على كل من يُثبت تورطه في أعمال العنف داخل فنزويلا وعلى حدودها.
ثالثاً، حدث خلال انقلاب غوايدو انشقاقات قليلة في صفوف الجيش والشرطة، بالرغم من إعلان المؤسستين آنذاك الوقوف إلى جانب الديمقراطية وقرار الشعب الفنزويلي. لكن هذه المرة لم يحدث أي انشقاق في المؤسستين، ولم يلق اليمين المتطرف أي شكل من أشكال الدعم من داخل مؤسسات الدولة.
وأخيراً، كانت المعارضة خلال انقلاب غوايدو مُسيطرة على الجمعية الوطنية الفنزويلية وكان غوايدو نفسه رئيساً لها، على العكس تماماً من اليوم، إذ يمتلك حالياً ائتلاف “القطب البوليفاري الكبير” الذي يضم الحزب الحاكم الغالبية العظمى من مقاعدة الجمعية بواقع 253 مقعداً مقارنة بائتلاف “المنصة الوحدوية” اليميني المعارض الذي يحوز على 21 مقعداً لا غير.
المصدر : الميادين