سعياً للتأثير في مواقف الجمهور الأميركي وصناع القرار .. خفايا خطاب نتنياهو أمام الكونجرس (تفاصيل)
متابعات / تقرير
خطاب رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الكونغرس الأميركي هاجم، في جزءٍ مُعتبر منه، المتظاهرين ضد الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال في غزة والطلاب الرافضين للاحتلال ووحشيته، سعياً للتأثير في مواقف الجمهور الأميركي وصناع القرار، وإمعاناً في الكذب والاستعراض.
ألقى نتنياهو خطابه أمام الكونغرس على وقْع احتجاجاتٍ تصاعدت في واشنطن، بدأت قبل الخطاب ببضع ساعات، وطالبت بمحاسبته على ارتكاب إبادة، منتقدة من حضروا الخطاب من المشرّعين، وشاملة يهوداً متدينين، رغم الإجراءات الأمنية المكثفة والحواجز التي أبعدت المتظاهرين وطوّقتهم في موقعٍ بعيد عن قبة “الكابيتول” ومسار موكب رئيس الوزراء الإسرائيلي.
لأجل ذلك، لم يكن غريباً أن يشمل الخطاب هجوماً على المحتجين، المتصاعدة فاعليتهم مؤخراً، وحضورهم في الجامعات، بشكلٍ غير مسبوق، مثّل ضغطاً على نفوذ الديمقراطيين وقياداتهم تحديداً، وجعل العلاقات السياسية والاستثمارية مع “إسرائيل” عبئاً على المشرّعين وإدارات الجامعات وصناع القرار.
من هنا، اتهم نتنياهو في خطابه المحتجين بأنهم “يؤيدون الشر وقتل الأطفال”، موغلاً في اللعب على العاطفة بأن يقلب الاتهام الذي صار لصيقاً بـ”إسرائيل” – بالأدلة المرئية – لدى قطاع معتبر من الرأي العام الأميركي، مردداً مفردات الذبح والاغتصاب والمزاعم التي تراجع البيت الأبيض نفسه عن تبنيها، وأنكرها لاحقاً من أطلقوها، ليبدو هدف الخطاب، مع تأكيده طيب العلاقة مع الحزبين الديمقراطي والجمهوري بالقدر نفسه، إعادة رسم وتأكيد السردية الإسرائيلية للسابع من أكتوبر، وصرفها سياسياً وفي المعونات والتسليح، باستخدام الورقة الإنسانية والبُعد الديني والمستوى الاستراتيجي.
بالورقة الإنسانية، وصف نتنياهو المتظاهرين ضد الإبادة، ومنهم طلبة الجامعات، بأنهم أداة مفيدة بيد مضطهدي النساء والمثليين، عازفاً على وتر الثقافة الليبرالية وعناوين حقوق الإنسان، إذ إنه يعلم حضورها في المجتمع هناك، شاملاً الجامعات، وفي قواعد الحزب الديمقراطي، وأن الجمهوريين لا يمانعون استخدامها في هذا السياق.
وقد التقت تصريحات قيادات الحزبين دوماً عند إدانة ما يحافظون على وصفه بـ”فظائع حماس” المفترَضة التي لم تثبتها أدلة أو تحقيقات. لذلك، وجد الأرضية المناسبة للقول: “على المتظاهرين أن يشعروا بالعار”، رغم ملاحقة شعاراتهم، وملاحقة آخرين عالمياً، له بالعار والاتهام بالإجرام، وقتل الأطفال تحديداً.
في الأشهر الماضية، لامس شعار “من البحر إلى النهر” السياسي، الذي ردده الآلاف من طلبة الجامعات الأميركية، عصباً حساساً عند الإدارة الإسرائيلية، إذ عكس أفقاً فلسطينياً للتحرير، وتجاوز عتبة التضامن الإنساني والحقوقي إلى مضمون استراتيجي أعمق يؤثر بالفعل في ما تتصوره “حق إسرائيل في الوجود”. لذلك، انتقد الخطاب الشعار بحدة، مستغلاً البُعد الديني، وردّ عليه من خارج السياسة: “أرض إسرائيل هي التي صلّى فيها إبراهيم وإسحاق ويعقوب وحكم فيها داوود وسليمان… كانت لأربعة آلاف عام أرض اليهود، وستبقى كذلك”.
اتهم نتنياهو الطلاب بـ”معاداة السامية” من دون تعريفها موضوعياً كالعادة، وتجاوز ذلك إلى إدانة رؤساء جامعات (مثل هارفرد) قالوا إن شعارات الطلبة لا تُفسر خارج سياقها. لم يكن هجومه هذا ممكناً من دون التهويل بأن تلك المعاداة “أقدم كراهية في التاريخ”، وربْط الاحتجاج الطلابي على الإبادة بشيطنة اليهود – تاريخياً – بدليل تعرّضهم للإبادة في الهولوكوست.
إنه خطابٌ ديني موجّه إلى كبار الممولين والمستثمرين والمتبرعين للجامعات أكثر من الطلاب، يعكس إدراكه النمط الثقافي لكثير من هؤلاء، وحرصه على إنقاذ الصناديق الاستثمارية الجامعية الشريكة لـ”إسرائيل” بالعودة إلى مشترَك تاريخي، مقتبساً الكتاب المقدس وسردية عاطفية مضمونة الأثر عند تلك الشريحة التي تدعم “إسرائيل” مادياً باعتبارها “الشعب اليهودي” المذكور في الكتاب. هو أسلوب تقليدي للعلاقات العامة بين الكيان وأصدقائه الداعمين والمتعاطفين في دوائر الثروة والسلطة، يسعى الآن لتخفيف وتجاوز العبء السياسي الذي يمثّله عشرات الآلاف من ضحايا هذا الدعم والتمويل في غزة.
من ناحية أخرى، أراد نتنياهو تصوير الفاعلية الطالبية خطراً حقيقياً عملياً، لا في حقل الأفكار والقيم فحسب، فلعب على المستوى الاستراتيجي الذي يجمع البلدين ويعكس المصالح ووحدة المصير والعدو، وهو ما ركّز عليه الخطاب كثيراً، وخصوصاً في خاتمته، فقال إن الطلاب لا يميزون بين الإرهابيين و”الديمقراطية الإسرائيلية”، واضعاً حماس في خانة “الخطر البربري” الذي يصارع التحضّر، وفق قوله في بداية الخطاب.
وكانت المفاجأة هي اتهامه إيران بدعم هؤلاء المتظاهرين وتمويلهم، في محاولة لشيطنة تحركهم وأفكارهم وربْطهم بمضمون سياسي أعمق من التضامن الإنساني والموقف السياسي ضد “إسرائيل”، ليضمّهم إلى “محور الشر” الذي خصص فقرات كثيرة في خطابه لتأكيد خطره الاستراتيجي، واعتبره عدواً مشتركاً تقاتله “إسرائيل” بالوكالة عن أميركا، في معركة واحدة، إذ يعادي هذا المحور المصالح الأميركية، لا الصهيونية فحسب.
اتهام كبير تتضح سخافته، ومن الغرابة أن يوجهه رئيس حكومة إلى متظاهرين في دولةٍ أخرى، وتحت قبة مجلسها التشريعي! كأنه أخذ دور الادعاء العام الأميركي، لكنه يُفهم في إطار العلاقة العضوية بين “إسرائيل” والولايات المتحدة، ووحدة المصير الحقيقية التي أظهرها 7 أكتوبر، وخصوصية نتنياهو تحديداً بعلاقاته العميقة والواسعة في واشنطن.
كل هذا جعله يطلب – مباشرةً – المزيد من الأسلحة المتطورة، لأن هزيمة “إسرائيل” ستلحقها هزيمة أميركا، أي أنه يطمح إلى تعامل أكثر حسماً مع تلك التظاهرات الأميركية، يناسب “الحسم” الذي تكفله الأسلحة، ويحتاجه مع المقاومة وحلفائها في إيران ولبنان من دون قدرة على تحقيقه.
وبعدما أظهرت الأشهر الماضية نزيف سُمعة حاداً، قوّض صورة الكيان القوي الديمقراطي، الذي يمثّل “حق إحدى القوميات في الحياة”، وجعل تثبيت هذا الانطباع عند الأجيال القادمة وفي الثقافة الأميركية السائدة مهمة بالغة الصعوبة، قد يخلخل هذا الاتهام تعقيدها باستدعاء واستخدام ملف الأمن القومي الأميركي ومفرداته النمطية التي استُخدمت سابقاً لتجاهل التظاهرات ضد حربي فيتنام والعراق.
تكامَل الحديث عن المتظاهرين وإجمالي المشهد: اصطحاب مصابين عسكريين متنوعي العرق والدين، إثيوبي وعربي مسلم، وترديد اتهاماتٍ لم تثبت، بل ثبت عكسها، إذ كشف تحقيق شرطي إسرائيلي قَصْف سلاح الجو مشاركين في المهرجان الموسيقي في غلاف غزة صبيحة السابع من أكتوبر بدلاً من قصف مقاتلي المقاومة، وترديد مقولات الصراع بين التحضّر ونقيضه لنفي الجوهر السياسي للمسألة، في سعي للتأثير في مواقف الجمهور الأميركي وصناع القرار من المتظاهرين والطلاب الرافضين للإبادة، بتشويه خطابهم واستدعاء كل ما يجعله خروجاً عن صيغة التحالف الصهيوني الأميركي الأبدي الذي ما زال يعد أحد أسس السياسة الأميركية.
المصدر : الميادين