عطوان يكشفُ: أمران مهمَّان يعزّزان موقفَ اليمن الأخلاقي وسيُمدِّدان المُواجهات ضد أمريكا إلى هذه النقطة
لماذا تتوسّع الحرب في البحر الأحمر بسُرعةٍ قياسيّةٍ وتتزايد أعداد الحرائق في السّفن المُستهدفة؟ وكيف وقعت أمريكا وبريطانيا في المِصيَدة الإسرائيليّة بسُهولةٍ؟ وما هُما الشّرعيّتان اللّتان ستدعم موقف حُكومة صنعاء الأخلاقي وستُطيلان أمد المُواجهات وتمدّدها؟
عبد الباري عطوان*
لا نستغرب العناد الأمريكي، بشقَّيه: العسكريّ والسياسيّ، بشُؤون منطقة الشرق الأوسط؛ لأَنَّه يعود إلى انعدام الخبرة أوّلًا، والغطرسة، والتّضليل الإسرائيلي المدروس ثانيًا، ولكن ما نستغربه هو الانجرار البريطاني الأعمى خلفه، خَاصَّة أن وزارة الخارجيّة البريطانيّة كانت، وما زالت، تعجّ بالخُبراء، والمُستشرقين الذين يعرفون المِنطقة جيِّدًا، بحُكم الإرث الاستعماري، والتّفاصيل الدّقيقة لجينات شُعوبها، وإرثها الثقافي والتاريخي، وخرائطها القبليّة والعشائريّة والجُغرافيّة السياسيّة.
نسوق هذه المُقدّمة، ونحن نُتابع التّصعيد اللّافت، والمُتسارع، للهجمات الصاروخيّة التي تشنّها القوّات البحريّة التّابعة لحُكومة صنعاء، وتستهدف السّفن العسكريّة والتجاريّة في البحر الأحمر، سواءً الإسرائيليّة الملكيّة، أَو المُحمّلة ببضائعٍ مُتّجهةٍ إلى موانئ فِلسطين المحتلّة، وأسدود، وإيلات، وحيفا على وجه الخُصوص.
بالأمس أطلقت هذه القوّات صاروخين أصابَا، وبدقّةٍ مُتناهية، ناقلة نفط بريطانيّة مُحمّلة بوقود للطّائرات كانت محميّة عسكريًّا بسفينتين أمريكيّة وبريطانيّة، وفي طريقها إلى ميناء حيفا، حسب التّقارير الإخباريّة المُوثّقة، ممّا أَدَّى إلى حريقٍ ضخمٍ في النّاقلة المذكورة.
***
بريطانيا استعمرت جنوب اليمن لعُقود، وخرجت منه مهزومة ومُهانة عام 1967، بفعل ضربات المُقاومة اليمنيّة المُوجعة، وأرشيف مُخابراتها، ووزارة خارجيّتها مليءٌ بالوثائق التي تتحدّث عن هذه الفترة، وتصف بدقّةٍ صلابة وشجاعة المُقاومة لوجودها الاستعماري، وما ترتّب على ذلك من خسائرٍ بشريّةٍ، وماديّةٍ ضخمة، اضطرّتها في نهاية المطاف للهُروب سعيًا لتقليصها.
دولة الاحتلال الإسرائيلي ورّطت أمريكا، والأخيرة ورّطت بريطانيا، وبعض الدّول الأُخرى الإنجلوسكسونيّة، مِثل أستراليا وكندا ونيوزيلندا في تحالفٍ يحمل عُنوانًا كاذبًا اسمه “ازدهار البحر الأحمر” شكليًّا، وواقعيًّا حماية السّفن الإسرائيليّة في البحر الأحمر من صواريخ اليمنيين، فلم تنجح في تحقيق أي من أهدافها حتّى الآن، بل زادت الأوضاع سُوءًا وخُطورةً.
هذا التّحالف لم يحم السّفن الإسرائيليّة، بل ولن يَحمِ سُفنه الحربيّة البريطانيّة والأمريكيّة، وسيجر البلدين إلى مِصيَدةٍ مُحكمةِ الإعداد، تُؤدّي في النهاية إلى هزيمتهما وغيرهما، على غِرار ما حدث في أفغانستان والعِراق، إن لم يكن أكثر تكلفة، وخسائر، وإهانات.
صحيح أن القوّات البريطانيّة والأمريكيّة تنتقم لهذه الضّربات الصاروخيّة التي تُدمّـر السّفن التي لا تستجيب لأوامر القوّات البحريّة اليمنيّة، بضربِ أهداف في العُمُق اليمنيّ، ولكن يظل تأثيرها محدودًا جِـدًّا، وتزيد من حدّة النّزعة الانتقاميّة لدى الشّعب اليمني وقوّاته.
أمريكا وقيادتها السياسيّة والعسكريّة على درجةٍ عاليةٍ من التهوّر، وعدم التعلّم من التّجارب العمليّة على الأرض، سواءً تلك المُتعلّقة بقوّاتها، أَو من تجارب الدّول الأُخرى، فأصغر طفل في الجزيرة العربيّة، ومِنطقة الشّرق الأوسط، يعلم أن مئات الآلاف من الأطنان من المُتفجّرات والقنابل وعشرات الآلاف من الغارات الجويّة بطائراتٍ حديثة والصّواريخ الباليستيّة استهدفت اليمن على مدى ثماني سنوات من الحرب السعوديّة الإماراتيّة، ولكنّها فشلت جميعاً في فرض الاستسلام على الشّعب اليمني، وقِيادته، ولم تتوقّف هذه الحرب إلّا بالطّرق السّلميّة والتّجاوب مع مُعظم المطالب اليمنيّة في نهاية المطاف.
الغريب أنّ مارتن غريفيث المبعوث الأممي إلى اليمن دبلوماسي بريطاني الجنسيّة، ولعب دورًا كَبيراً في التوصّل إلى الهدن المُؤقّتة وما رافقها من مُفاوضاتٍ سريّة وعلنيّة، أَدَّت في نهاية المطاف إلى هدنةٍ شبه دائمة، ووقف القتال لأكثر من عامين حتّى الآن، ووضع صيغة اتّفاق دائم كان من المُفترض أن يُوقّع من قبل جميع الأطراف قبل نهاية العام الماضي، ولكنّه تأجّل؛ بسَببِ حرب غزة.
السُّؤال: لماذا لم تستشر كُـلّ من أمريكا وبريطانيا هذا المبعوث الدولي البريطاني، وتأخُذ رأيه قبل الوقوع في المِصيَدة الإسرائيليّة، وتتورّط في حربٍ مع اليمن وستكون مضمونة الهزيمة لهما؟ والسُّؤال الآخر كيف عجزت الدّولتان عن فهم الأسباب التي دفعت كُـلّ من السعوديّة والإمارات لعدم الانضِمام إلى تحالف “ازدهار البحر الأحمر” الوهمي وهُما اللّتان خاضتا الحرب ضدّ حُكومة صنعاء، والشّيء نفسه يُقال عن مِصر والسودان، والصومال، وجيبوتي، الدّول المُشاطئة للبحر الأحمر ومُعظمها حليفة أَو صديقة لأمريكا؟
حُكومة صنعاء بزعامة حركة “أنصار الله” اليمنيّة، أثبتت أنها كانت بعيدة النّظر، وفازت بعُقول وقُلوب مِئات الملايين من العرب والمُسلمين والشّرفاء في العالم عندما هرعت لنُصرة الأشقّاء المُحاصَرين المُجوّعين المُستَهدفين بحربِ الإبادة النازيّة في قطاع غزة، وربطت بين السّلام للسّفن الإسرائيليّة ووصول المُساعدات الإنسانيّة ووقف القِتال لأهلنا في غزة، وهو ما لم تفعله أي دول عربيّة، حليفة أَو غير حليفة للغرب.
***
الآن، وبعد هذا التدخّل العسكري الأمريكي البريطاني في البحر الأحمر، واستشهاد ضحايا يمنيين بغاراته الصّاروخيّة، توسّعت مَهمّة القوّات اليمنيّة وباتت تتغطّى بشرعيّتين على درجةٍ عاليةٍ من الأهميّة:
الأولى: الثّأر لشُهدائها الذين سقطوا بصواريخ الغارات الأمريكيّة والبريطانيّة، وتولّي مسؤوليّة حِماية البحر الأحمر ومياهه من وجود أساطيل تحالف “الازدهار” المزعوم الاستعماريّة.
الثانية: الاستمرار في الوقوف إلى جانب الأشقّاء في قطاع غزة الذين يُواجهون حرب الإبادة والتّطهير العِرقي والتّجويع من قِبَل إسرائيل، خَاصَّة بعد قرار محكمة العدل الدوليّة الذي أدانها وطالب بوقفها، وأعطى دولة الاحتلال مُدّة شهر لتنفيذ القرار بدُخول المُساعدات دُونَ توقّفٍ، في تبنٍّ حرفيٍّ للموقف اليمني.
اليمنيّون من أكثر شُعوب العالم شجاعةً وإقدامًا، ويملكون إرثًا ضخمًا يمتدّ لأكثر من 8 آلاف عام في مُقاومة الامبراطوريّات الاستعماريّة وهزيمتها، فهُم لا يهابون الموت، ويتطلّعون إلى الشّهادة، ويضعونها على قمّة طُموحاتهم، فقيم العدالة والكرامة، وعزّة النّفس، والثّأر من الغُزاة تحظى بالأولويّة عندهم، وتتقدّم على كُـلّ ما عداها، ولذلك سيتعرّض المحور الأمريكي البريطاني الأنجلوسكسوني لهزيمةٍ كُبرى إذَا لم يتراجع وسينضم إلى قائمة نُظرائه المهزومين في اليمن الطّويلة جِـدًّا.. والأيّام بيننا.
* كاتبٌ عربيٌّ من فلسطين- رأي اليوم