عطوان: ظاهرةُ حرق المصحف ستتكرّر وحُريّة التعبير أُكذوبةٌ كبيرة
لماذا يُجرّم القانون نُكران “المحرقة” وحرق أعلام المِثليين والعداء للساميّة ويتهاون في التّعاطي مع الانتِهاكات للعقيدة الإسلاميّة؟ وما هو دور اللوبيّات الصهيونيّة؟
عبد الباري عطوان*
“حُريّة التعبير” التي يتم استخدامها على نطاقٍ واسع هذه الأيّام في العالم الغربيّ كذريعةٍ لحَرقِ القرآن الكريم، والتّطاول على الرسول صلى الله عليه وسلم، والتّكريه بالعقيدة الإسلاميّة، هذه الحُريّة التي تُعتبر دُرّة تاج الديمقراطيّة الغربيّة تتآكل بشَكلٍ مُتسارع مع صُعود الأحزاب اليمينيّة الفاشيّة في مُعظم الدّول الأوروبيّة وما حدث في السويد قد يكون قمّة جبل الجليد.
“حُريّة التعبير” باتت لهُم وليست لنا، وتتكيّف مع بعض سياساتهم ومواقفهم، العُنصريّة الطّابع على وجْه الخُصوص، ومِن المُؤسف أنها لم تعد تنطبق علينا كعرب ومُسلمين، سواءً كمُهاجرين، أو في العالمين العربيّ والإسلاميّ، خاصَّةً عندما يتعلّق الأمْر بقضايانا العادلة والقضيّة الفِلسطينيّة على وجْه الخُصوص، ولعبت دولة الاحتِلال الإسرائيلي ولوبيّاتها دورًا كبيرًا في هذا الصّدد، في ظِل غِياب شبهٍ كامِل لأيّ تحرّك عربي أو إسلامي جدّي لمُواجهة هذه الإساءات بعد اتّساع نطاقِ دائرة التّطبيع، وما يُسمّى بسلام أبراهام.
***
نستطيع أن ننتقد أمريكا، والصين، وروسيا، وفرنسا، وبريطانيا، وسِياساتها وتاريخها، ولكنّنا لا نستطيع أن ننتقد في العالم الغربيّ المجازر الإسرائيليّة في حقّ أطفالِ فِلسطين وهدم البُيوت، والإعدامات اليوميّة للشبّان العُزّل في شوارع الضفّة الغربيّة المُحتلّة، لسببٍ بسيط وهو وجود قوانين تعتبر هذا الانتِقاد عداءً للساميّة ويُشَكّل انتهاكًا للقوانين يستحقّ العِقاب بالسّجن 15 عامًا لأنّه تحريضٌ على الكراهية، يرتقي إلى إثْمِ دعمِ الإرهاب.
ألمانيا تمنع أيّ مُظاهرة تعاطفًا مع الشّهداء في جنين ونابلس وقِطاع غزّة، وتضامنًا مع الحقّ الفِلسطينيّ المشروع في مُقاومة الاحتِلال، وشكّلت محاكم تفتيش لصحافيين عرب وطردتهم من وظائفهم، وفي بريطانيا صدر قانون بالسّجن لأي شخص يرفع علم “حماس” أو يقتني أدبيّاتها، ناهِيك عن الانتِماء إليها، أو مُجرّد التّعاطف معها، فهذا في حدّ ذاته يُوفّر نظريًّا أرضيّةً قانونيّةً للاعتِقال، وربّما سحب الجنسيّة، والطّرد من البِلاد، وفي فرنسا يُجرّم القانون أيّ تشكيكٍ في “المحرقة” أو إنكارها، والقائمة تطول ومن الصّعب علينا أن نعرف أين تتوقّف.
ظَهَرتُ في أحد برامج محطّة “بي بي سي” باللّغة الإنكليزيّة يتناول مُحاولة الاغتِيال الأخيرة لسلمان رشدي صاحب “الآيات الشيطانيّة”، وقلت إنّ الكثيرين في العالم الإسلامي يعتبرون أن هذا الكتاب يُشَكّل إهانةً للإسلام، وتحريضًا على الإسلاموفوبيا، وتجسيدًا “لحُريّة الكراهية” ضدّ المُسلمين تحت ذريعة حُريّة التعبير، وقامت الدّنيا ولم تقعد، وشنّ اللّوبي الصّهيوني حملةً شرسةً ضدّي شخصيًّا وضدّ المحطّة التي استضافتني وعادوا إلى جميع مُقابلاتي ومَقالاتي لتأكيد مُعاداتي للساميّة، وجمع هذا اللّوبي توقيعات لأكثر من 10 آلاف شخص من بينهم نوّاب برلمان ولوردات وكِبار الصّحافيين والأُدباء والمُمثّلين، لفَتحِ تحقيقٍ برلمانيٍّ في انتهاكِ المحطّة (بي بي سي) لميثاقها واستِضافة شخص مثلي مُعادٍ للساميّة وعدم التّوازن في تغطية الأحداث المُتعلّقة بإسرائيل والصّهاينة، وما زالت الحملة مُستَمرّةً، وتوسّعت لتطال أيّ كاتب عربي أو إسلامي يتجرّأ على التّعاطف مع ضحايا الاحتِلال الإسرائيلي، أو ينتقد جرائمه في حقّ الفِلسطينيين على وسائل التواصل الاجتماعي، ونملك مِلفًّا كامِلًا بالصّوت والصّورة يُوثّق ما نقول.
القانون السويدي يُجرّم أيّ حرق لعلم المِثليين، لأنّه يُشَكّل تحريضًا ضدّ مجموعةٍ من المُواطنين في البِلاد، ولكن هذا القانون لا يُجرّم مُواطنًا سُويديًّا يمينيًّا عُنصريًّا، يحرق الكتاب المُقدّس لأكثر مِن مِلياريّ مُسلم في العالم يُقيم عشَرات الآلاف منهم في السويد ويحملون جنسيّتها.
مُعظم الحُكومات الإسلاميّة، ومن ضِمنها العربيّة، أصدرت بيانات تُدين إحراق القرآن الكريم في السويد، ولكن هذه الإدانات لا قيمة لها لأنّها لم تمنع الشّخص العُنصري نفسه من حرق القرآن في مرّاتٍ سابقة، ولم تُوقف مجلّة “تشارلي إيبدو” الفرنسيّة من نشْرِ رُسوماتٍ كارتونيّةٍ جديدةٍ تُسيء للرّسول، بل عادت ونشرت أكثر من مرّةٍ الرّسومات القديمة المُسيئة، والسّبب بسيطٌ أن هذه الحُكومات لا تفعل شيئًا للمُستوطنين الإسرائيليين الذين “يتفنّنون في حرقِ القرآن الكريم، واقتِحام الأقصى، وتقسيم الحرم الإبراهيمي في الخليل والقائمة تطول.
المُسلمون في مُختلف الدّول الإسلاميّة والعالم لا يحرقون التوراة اليهوديّة، ولا الإنجيل المسيحي، ليس لوجود قوانين تُحرّم ذلك، وإنّما لأنّهم يحترمون هذه الدّيانات ومُعتَنقيها ويُؤمنون بها، ثمّ يأتي من يَرُدّ لهم هذا الجميل، وهذه الأخلاق الحميدة بحَرقِ قُرآنهم الكريم، وتحت حِماية الحُكومات وقُوّاتها أمنها، وتحت أُكذوبَة “حُريّة التعبير”.
هذه الانتِهاكات المُعيبة والاستِفزازيّة يُمكن حلّها بسُهولةٍ، ومثلما أصدرت البرلمانات الغربيّة تشريعات وقوانين تُحرّم إنكار المحرقة اليهوديّة، لماذا لا تفعل الشّيء نفسه، وتُصدر قوانين تُجرّم حرق القرآن الكريم، والتّطاول على الرّسول محمد صلى الله عليه وسلم، وتَفرِض عُقوبات مُشَدّدة على مُفجّريها؟ وهل إصدار هذه القوانين يُشَكّل إنتهاكًا لحُريّة التعبير وكيف؟ أفيدونا أفادَكُمُ الله؟
***
جريمة حرق القرآن الكريم في السويد ستتكرّر، وربّما ستتوسّع، في ظِل تغوّل اليمين العُنصري، وغِياب القِيادات الحكيمة، وهيمنة الولايات المتحدة على أوروبا، وظُهور بوادر تُؤكّد احتِمال إطالة الحرب الأوكرانيّة، وعلى العرب والمُسلمين أن يستعدّوا للنّتائج الكارثيّة التي يُمكن أن تترتّب على هذه التطوّرات المُتسارعة وربّما يكون أبرزها تضييق الخِناق، والطّرد لملايين اللّاجئين العرب والمُسلمين المُواطنين في العَديدِ من الدّول الأوروبيّة، وترحيلهم إلى بلادهم الأصليّة.
اللوبيّات الصهيونيّة التي ساهمت بدورٍ كبير في تقويض قيم العدالة وأبرزها حُريّة التعبير، واحتِرام الرّأي الآخر في الغرب، وعزّزت بشَكلٍ مُباشر، أو غير مُباشر، ظاهرة “الإسلاموفوبيا” “ستكون وأتباعها من أبرزِ الضّحايا أيضًا، وربّما يُفيد التّذكير بأنّ “المحرقة” لم تقع في الشّرق الأوسط أو دول المغرب العربي الإسلامي، حيثُ عاشَ اليهود مُكرّمين كمُواطنين مُتساوين وإنّما في قلبِ أوروبا.. والأيّام بيننا.
* رأي اليوم