هذا ما يجري في عدن؟
هذا ما يجري في عدن؟
متابعات| تقرير*:
تصب عدن في صلب اهتمام كل من السعودية والامارات خلال المرحلة الحالية، منذ بدء الحرب على اليمن. وهي المدينة “العاصمة” التي حجزت حيّزاً واسعاً في لائحة أولويات بريطانيا اولاً، ثم الاتحاد السوفياتي ومختلف القوى الدولية على مر التاريخ، نتيجة موقعها الاستراتيجي. غير ان ما وصلت إليه عدن اليوم، من دمار وتخريب غيّر معالمها التاريخية والحضارية، بات موصولاً، دون ريب، بالإجراءات والممارسات التي يقوم بها النظام التابع والمدعوم من الرياض طيلة عقود إلى الآن، حتى باتت المدينة لا تشبه نفسها حقاً.
خلال حديث مع محافظ عدن، التابع للرياض، أحمد الأملس، يقول الصحفي في مجلة “ذي أتلانتك”، ديفيد كينر، ان “لا أحد في السلطة يريد إعادة اليمن كما كان”. ونقل ما جرى أثناء لقاءه بالأملس: “كان -أي الأملس- يصف بسعادة التقدم الذي أحدثه في إعادة بناء عدن العاصمة الانتقالية… وعندما انقطع التيار الكهربائي وحل الظلام على غرفة المؤتمرات المتداعية تحدث يمني كان مع الفريق ساخرا “هذا هو واحد من الإنجازات”.
ويتابع كينر، تُعرف عدن بـ “عين اليمن”، التي ظلت بوابته للعالم ودخلت منها الأفكار الأجنبية والغزاة. قضت هذه المدينة الساحلية الجنوبية أكثر من قرن تحت الحكم البريطاني، وربطت ممتلكات لندن الإمبراطورية في مصر والهند. وقعت في نطاق النفوذ السوفيتي بعد انهيار الإمبراطورية البريطانية، وأصبحت عاصمة الدولة الشيوعية الوحيدة في الشرق الأوسط. الآن هي تحت سيطرة السعودية والإمارات.
ورغم طرد الحوثيين منها قبل سبعة أعوام -وفق ما جاء في تقرير له- إلا أن عدن تبدو وكأن الحرب قد انتهت فيها قبل عدة أيام، فأنقاض البيوت في كل أنحاء المدينة، وليس لدى الأملس سوى تمويل لإزالة الأنقاض من حي واحد من ثمانية أحياء. وعلى الجانب الآخر، فندق عدن حيث أقام وكان مرة مركز حفلات الزواج الباذخة إلا أنه مدمر جزئياً بسبب القصف الذي أحدث أضراراً على الواجهة الأمامية. ويفكر الأملس بوضع يافطات لتقوية معنويات الناس المحبطين من التقدم البطيء في الإعمار، لكنه يعترف أن ميزانيته لا تكفي إلا لتغطية إعادة إصلاح فندق عدن. ووعد رئيس الوزراء اليمني في تشرين الثاني/نوفمبر بإصلاح محطة الكهرباء الوحيدة، لكنها لا تزال معطلة. ويعترف الأملس “نحن فقراء”.
وبعد أسبوعين من وصوله إلى البيت الأبيض وصف الرئيس جو بايدن الحرب في اليمن على أنها “كارثة استراتيجية وإنسانية”. فالحرب الجوية التي قادتها السعودية قتلت 9 آلاف مدني على الأقل، كما وقادت لأكبر وأسوأ كارثة إنسانية في العالم ولم تنجح في إخراج “الحوثيين” من العاصمة صنعاء.
وشهد ميناء عدن تدهوراً أمنياً وانهياراً اقتصادياً في ظل القيادات التي تحظى بدعم من السعودية والإمارات. وكان فقر الحكومة اليمنية مدعاة لاعتمادها على معونات الرياض وأبوظبي. ومقابل ذلك قدمت تنازلات غير قليلة عن السيادة، فالسفن التي ترسو في ميناء عدن يجب أن يفتشها أولاً، التحالف الذي تقوده السعودية، وتمر قبل ذلك من ميناء جدة السعودي. كما أن قرار منح التأشيرات للصحافيين الأجانب، كما يروي كينر، يتخذ في الرياض وأبوظبي. وقام مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية الذي يركز على اليمن وتموله منح من الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية بتنظيم الرحلة وتولى المفاوضات. ولم يعد المجال الجوي اليمني ملكا لليمنيين، فقد انتظرت الرحلة إلى عدن عدة ساعات في المدرج بانتظار موافقة التحالف الذي تقوده السعودية.
وعبر اليمنيون المرافقون للفريق الصحفي عن سخطهم من الوضع وقالوا إنه مهزلة. ولم يكن أفق البلاد مقيدا بهذه الطريقة، فهناك الكثير من العدنيين الذين لا يزالون يتذكرون ميناءهم بأنه كان “دبي وقته” حيث ازدهر بسبب التجارة الدولية في السنين الأخيرة من الإمبراطورية البريطانية. وزارت الملكة إليزابيث عدن عام 1954 وبعد أقل من عام على تتويجها ووصفت المدينة بأنها “المثال الأكبر على التنمية الاستعمارية”. وبعد عقود على زيارتها ظل الفندق اليمني الذي أقامت فيه يعيش على أمجاد الزيارة بجناح ملكي وصورة لها في عدن.
وقال عدني مسن للكاتب إنه لو زار عدن في الخمسينيات والستينيات، فلم يكن ليرى أن فندق عدن هو المعلم الرئيسي في الحي الذي أقام فيه، بل ولشاهد سينما “شيناز” التي كانت تعرض أفلام الوقت من بن هور وكليوباترا. وإلى جانبها كان هناك ناد ليلي اسمه “شاليمار” والذي كان يستقبل الفرق الموسيقية الدولية ويقدم البيرة الألمانية. ودمرت سينما شيناز بداية الألفية بسبب خلاف عقاري ولم يبق منها إلا أنقاض. وقال دادي موتيوالا، نجل مالك كل من شيناز وشاليمار، “كانت فترة يعتبر فيها الخروج أمرا تفعله بثقة، لو لم يكن لديك ربطة عنق لما سمحوا لك بالدخول”.
ويتابع كينر “لا أحد يريد إعادة عدن لما كانت عليه، فطموح القادة هو التمسك بالقوة حتى يتمكنوا من انتزاع آخر دولار في خزينة الدولة. أما الدول الخليجية الثرية فتريد على ما يبدو بقاء الحكومة عرجاء وغير فعالة حتى تستطيع إخراج نفسها من النزاع. أما هَم الولايات المتحدة فمقتصر على مكافحة الإرهاب وتحسين علاقاتها الأمنية مع السعودية والإمارات”.
ويواجه الإثيوبيون في عدن الإهمال والانتهاك، ويقولون إن الحكومة لا تدعمهم ولا المجتمع الدولي ويتسولون للطعام من المطاعم القريبة ويجمعون المياه من المواسير المحطمة في الفندق المتداعي. والهجران، له ثمنه، فقد مرض ابن جوار (33 عاما) والبالغ من العمر شهرين ومات بسبب عدم توفر العناية الطبية الأساسية. ولم يعثر على مكان لدفنه وناشد حارسا في فندق قريب كي يدفنه في حديقة الفندق. و “هذا هو الحال هنا، أطفال يولدون وأطفال يموتون”.
الجنرال المتقاعد أحمد العربي ضابط انضم إلى الجيش عام 1978 وأجبر على التقاعد في التسعينيات بعد المحاولة الانفصالية وهو يعيش اليوم مثل زملائه على تقاعد لا يتجاوز 30 دولارا. وهذا المبلغ لا يأتي بشكل منتظم. وفي عام 2016 حاول هو وزملاؤه الجنود السابقون إجبار الحكومة على دفع ديون المحاربين السابقين لكن لم يحدث، ومنذ اقتحامه القصر لم يحصل على فلس واحد. ويبحث العربي مثل غيره من الجنود السابقين عن فرص للحصول على ما يفي بمتطلبات الحياة اليومية “تجد طياراً عسكرياً يرعى الغنم أو يبيع الجرائد والسجائر”. ويرى أن التظاهرات هي محاولة للسيطرة على آلاف الجنود الذين تخلت عنهم الدولة اليمنية. ويخشى من انضمام بعضهم للتشدد الإسلامي أو عصابات الجريمة لتأمين المعيشة. ولو كان قادة اليمن يحاولون قمع التظاهرات من خلال تجويع الجنود السابقين فلن يحصلوا إلا على انتصار فارغ. والعربي لن يكون الوحيد مع مجموعته ممن حرموا من مصادر الحياة.
ويخلص ديفيد كينر إلى القول “اقضِ وقتاً في اليمن فستعثر على جيل غاضب محروم من الفرص، فهناك طلاب طب بدون كتب أو إنترنت، وطبيب نفسي متخصص بكدمات الحرب أخذت الجامعة مكتبه منه والموظف الحكومي الذي يعمل من البيت لأن المسلحين احتلوا مكتبه. ولو استمعت للدبلوماسيين فالهدنة التي جددت في نهاية حزيران/يونيو تعتبر فرصة لتحقيق سلام دائم، ونجحت بسبب التنسيق بين الدبلوماسيين الأمريكيين والسعوديين. وبالنسبة لسكان عدن، فالدبلوماسية الدولية منفصل عن الكفاح اليومي للناس. وفي حديث مع طالب طب بجامعة عدن قال إنه لو لم يعثر على وظيفة بعد تخرجه من الجامعة فـ “هناك الحرب” التي يمكن الحصول على المال كمقاتل”.
* الخنادق