شكراً للرياض التي جعلت من قرداحي قضيةً دوليةً سيكتُبُ عنها التاريخ
شكراً للرياض التي جعلت من قرداحي قضية دولية سيكتب عنها التاريخ
متابعات| تقرير*:
لم يخطئ وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي عندما وصف الحرب ما بين اليمن والسعودية بأنها حرب عبثية. ولم يخطئ عندما رفض الإستقالة، ولم يقل سوى ما يثلج القلوب في بيان استقالته. وأثبت أنه رجل السيادة بامتياز عندما أعاد البارحة بأن الحرب على اليمن، هي حرب عبثية تستنفذ مقدرات البلدين. فالحرب على اليمن مجرمة تقتل الأبرياء من مختلف فئات الشعب العربي اليمني، وعندما تنتهي لن يكون هناك سوى خاسر واحد، وهم العرب، الذين يقدم بعضهم البعض الآخر أضحية مقابل إرضاء الأميركي وحفاظاً على عروشهم.
أصبح الوزير قرداحي ببيان استقالته، ليس فقط علماً وطنياً، بل علماً قومياً عربياً، استطاع أن يعيد الحياة لمشاعر من العزّة افتقدتها السياسة في لبنان، في وقت يحاول فيه أطراف كثر دفعها نحو الخبو والموت. وبات الرجل معلماً وطنياً بفتحه باب معالجة إشكالية احترام قرار السيادة اللبنانية بشجاعة، وليس عبر المزيد من الإنبطاح. وافتتح بجرأة النقاش حول السيادة اللبنانية الإنتقائية لدى فئة من اللبنانيين، التي لا تعتبر خنوعها للمال السعودي، وتقبيل الأيادي الأميركية انتقاصاً للسيادة في لبنان! وهذا ما مثله رفض الوزير قرداحي للإستقالة. ولكن حين استقال، أن يكشف التسوية مع الفرنسيين ففي هذا مطلق العز، وأن يبرر استقالته بقوله أن: “لبنان لا يستحق هذه المعاملة…[و] أن هناك في لبنان شعبا له عزّه واستقلاله وسيادته”، ويتابع أن: “لا أقبل أن أستخدم سبباً لإيذاء لبنان وأبناء وطني”. وأن يصر على أنّه سيذكر رجل موقف حين تتوقف الحرب على اليمن، ويوقع المتحاربون معاهدات السلام، فإن في هذا منتهى الوطنية. لقد أفضت استقالة قرداحي إلى تسوية شبه دولية وهذا بمثابة اقرار له.
ومهما تكن الطريقة التي تناولت بها وسائل التواصل الإجتماعي أو حتى وسائل الإعلام التسويات المحلية والإقليمية، التي أُقِرت مقابل استقالة الرجل، فهي لا تنقص من قيمة استقالته، التي لم تقدم إلا مقابل ثمن كبير، ألا وهو التوقف عن مساومة الشعب اللبناني. وأن يقول المحامي والنائب السابق في مجلس الأمة الكويتي د. عبد الحميد عباس دشتي: “ما أضعفكم !! بلقاء عابر وبكلمات قليلة هزّ جورج قرداحي عروشكم وجعلكم تتسولون مواقف الدول. في عرف السياسة اصبحتم اضحوكة، بعد ان سخر العالم منكم في حربكم وعدوانكم على اليمن”، وهذا يتضمن معاني مواقف مذلة لمن شن العدوان على اليمن. وأن يكون التوافق معه كما جاء في كلام محمد عبد السلام، الناطق الرسمي لأنصار الله بأنه “نعم، العدوان على اليمن لن يستمر للأبد، ودول العدوان بحماقتها قد تجنت كثيرا على الوزير قرداحي، وذهبت السعودية كما هو طبعها في الخصومة لتعادي عبثا كل لبنان، وقد ظهرت صغيرة، وكان الوزير اللبناني كبيرا بموقفه الوطني والقومي”. وهو فعلاً كذلك.
واللافت أنه، ما أن خرجت السعودية من الباب، حتى أطلت قطر برأسها عبر الشباك التركي. ولا يستطيع أحد القول هنا أن الصراع التركي والقطري من جهة، والسعودي من جهة أخرى على لبنان ليس بالأمر الجديد. فتركيا عبر الجمعيات الممولة بشكل مباشر من قبلها أو من قبل قطر، ترتع منذ زمن في لبنان، وخاصة في طرابلس وصيدا. وهي جميعها لا تخرج عن نطاق الحلم العثماني لأردوغان. ولكن السؤال هنا عن مصلحة قطر في الدخول في هذا النزاع، وهي القادرة على كسب ود اللبنانيين جميعاً ومن كل الطوائف دون الحاجة إلى وسيط تركي. والسؤال الأكبر كيف سمح القطري للتركي المتسول ركب مطيته والسير بها؟ أمر مؤسف فعلاً!
لقد فضحت قضية الوزير قرداحي ما كان يجري من تحت الطاولة من صراع سعودي- قطري في لبنان، وافتعاله من قبل قناة الجزيرة ببث الحلقة في 25 تشرين الأول/ اكتوبر على اليوتيوب لتصريحات أطلقت في 5 آب/ أوغسطس. لم تكن الجزيرة لتختار توقيتاً أسوء من ذلك لإعادة افتعال أزمة جديدة في لبنان وفي داخل الحكومة. توسعت لتطال العلاقة الدبلوماسية ما بين السعودية ولبنان. ولكن هل كانت السعودية لتترك الساحة اللبنانية لقطر والتركي ليرتعا بها؟ بالطبع لا! ليس الأمر حفاظاً على لبنان، ولكنه اليوم درءاً للخطر القادم باتجاهها “كالجرافة”، وخاصة بعد المحادثات الإماراتية التركية التي بدأت منذ أيام، والتي يستشف منها المحاولات الحالية من أجل تقويض دور السعودية في المنطقة.
لقد وضع تصريح الوزير قرداحي الأصبع ليس على الجرح فقط، بل غرسه فيه غرساً، حين ذكّر السعودية بالحرب العبثية والغبية التي شنتها على اليمن، والتي يجاهد حلفاؤها فيها لرمي تبعاتها عليهم، والتملص من عبثية الحرب، ومنهم الأميركيون والإماراتيون وحتى “الإسرائيليون”. أن يلوم السعوديون قرداحي على كلامه ويبنون عليه الحجة في فشلهم السياسي في لبنان، هو تصرف غبي، ومن الطبيعي أن تبادر تركيا وقطر لإقتناص الفرصة للدخول إلى المعترك اللبناني، وإبتداء المحادثات من أجل مساعدة لبنان وإمكانية تزويده بالغاز القطري، عبر دعوة رئيس الجمهورية اللبناني لحضور افتتاح كأس العرب لكرة القدم منذ أيام. واليوم ليس من المعروف إذا ما كان الدخول القطري لمساعدة لبنان سيبقى قائماً أم لا، وخاصة بعد الإستقالة!
ولكن إذا ما قبلت السعودية بعد استقالة الوزير، وخاصة أن هناك ضمانات بالوساطة الفرنسية بتوقف الحملة السعودية والخليجية ضد لبنان واللبنانيين المغتربين وهذا بالتحديد ما شجع على الإستقالة كواجب وطني، فهذا يعني أن هناك توجهاً فرنسياً- سعودياً لوقف التمدد التركي باتجاه لبنان، وهذا ما تعمل عليه فرنسا من خلال صفقة بيع الطائرات الفرنسية إلى الإمارات، واستمالتها بعيداً عن تركيا. وهذه واحدة من الأزمات المهمة، التي كشفتها قضية الوزير اللبناني، والتي تعكس التخوف السعودي من محاولات التمدد الإماراتي باتجاه تركيا، بعدما كانت كلّ من الإمارات والسعودية وكأنهما “زندان في نفس الوعاء”.
كشفت استقالة الوزير قرداحي عن رجل متماسك وقوي. رجل وطني وعروبي بكل معنى الكلمة. والتضامن العربي الذي حظي به من اليمن إلى دول المغرب العربي إلى العراق وسوريا، عبر عن حاجة العرب جميعاً إلى المزيد من أصاحب الكلمة الحرة. والمضحك أن الفضل بذلك يعود إلى مواقف السعودية المتشددة، فشكراً للرياض! لقد جعلت من قضية استقالة الرجل قضية دولية، تدخلت بها فرنسا وتركيا، وكشفت حجم الصراع، ما بين تركيا وفرنسا على لبنان. كما جعلت من الوزير جورج قرداحي اسم حيّ للأبد، وخصوصاً عندما يبدأ الأولاد في المدارس التعلم عن هذه الحقبة في كتب التاريخ، تحت مسمى، “قضية قرداحي”. ليس كصحفي متميز، ولكن كسياسي فذ ارتبط اسمه بقضايا الأمة ووقف فيها إلى جانب الحق.
* موقع الخنادق