«فورين بوليسي» تعدّد أسبابَ هزيمة أمريكا على يد قبائل أفغانية
..
متابعات..|
نشرت مجلةُ «فورين بوليسي» الأمريكية تحليلًا أعدَّه جيريمي سوري، الأُستاذ بقسم التاريخ في جامعة تكساس، قدَّم فيه قراءة لأهمية النظام القَبَلي في الوقت الراهن، لا سيما بعد أن تمكَّنت حركة طالبان من إحكام سيطرتها على أفغانستان، مؤكدًا أن هذا النظام أضحى أحد أهم أشكال التنظيمات السياسية التي يجب تزويد الدبلوماسيين الأمريكيين بمعلومات عنه. وأشار الكاتب إلى أنه يتعين على القادة في الغرب أن يدركوا أن المؤسسات الحكومية التي يُفضِّلونها ليست بالضرورة أفضل من البدائل القَبَليَّة.
الدول ليست الشكل الوحيد للتنظيم السياسي
يستهل الكاتبُ تحليلَه بالإشارة إلى أن الانهيار السريع للدولة التي أرست قواعدها الولايات المتحدة في أفغانستان يُعَدُّ تذكيرًا مؤثِّرًا بأن الدول ليست الشكل الوحيد للتنظيم السياسي، بل إن الواقع على العكس من ذلك. وشهدت العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين أدلة تُثبِت انهيار دول في جميع أنحاء بلدان جنوب الكرة الأرضية. كما تَمرُّ الدول في العالم المُتقدِّم أيضًا بأزمة، حتى في أكثر البلدان استقرارًا على مرِّ التاريخ، ومن بينها الولايات المتحدة وبريطانيا. وظهر رجال أقوياء مستبدون في عديد من الدول المحفوفة بالأزمات من أجل حماية النظام من التهديد بالانهيار؛ وآية ذلك أنهم يستجيبون للمخاوف المتعلِّقة بحدوث الانهيار في أوساط المستفيدين الأكثر حظًّا من المؤسسات الحالية.
ويُقِّدم كتاب: «القبيلة والدولة في آسيا على مدى خمسة وعشرين قرنًا أو Tribe and State in Asia Through Twenty-Five Centuries» للمؤلف سوميت جوها سياقًا مُهمًّا لفَهْم أحد أقوى أشكال التنظيم السياسي الذي يسلك طريقًا مناهضًا لطريق الدول، وهو: القبيلة. وسوميت جوها مؤرِّخ من جنوب آسيا، ولديه توجُّه اجتماعي. كما يركِّز المؤلف على ما يُطلِق عليه «البيئة السياسية للحياة القَبَليَّة». ويزعم سوميت جوها أن المناخ والتضاريس يمكِّنان الأشكال الريفية البسيطة واللامركزية من التنظيم الاجتماعي من الوصول إلى السلطة في الإمبراطوريات والدول. وتصمد المجموعات التي تعيش في هذه المناطق وتستمر من خلال تكوين شبكات قرابة والقدرة على التكيُّف مع الأرض التي يعيشون عليها. كما تقاوم هذه المجموعات الدخلاء الأقوياء وتتأقلم بصورة مبتكرَة مع التغييرات الأوسع نطاقًا في مجالي السياسة والاقتصاد.
القبائل ليست بقايا أثرية لماضٍ ضائعٍ
ويؤكد التحليل أن هذه النقطة الأخيرة تُعد أحد أهم إسهامات جوها: وذلك لإظهار أن القبائل ليست بقايا أثرية لماضٍ ضائعٍ ولكنَّها بدلًا من ذلك تُعد تكيُّفات دينامية حديثة مع التهديدات والدوافع في عالمنا المعاصر. ويقدِّم جوها دراسة استقصائية لأمثلة عن قبائل منتشرة في جميع أنحاء القارة الآسيوية، بما في ذلك قبائل وادي سوات في باكستان، والأقليات العِرقية في الصين، والقبائل المُصنَّفة في الهند.
وردَّت كل مجموعة من هذه المجموعات على الدول القوية من حولها على نحوٍ يُعيد تشكيل هوية قبائلها من أجل النجاة. على سبيل المثال، استخدمت قبائل متعدِّدة في الهند النظام الديمقراطي الهندي للمطالبة بالحصول على حِصص في الوظائف الحكومية والتوظيف الجامعي، كما قاومت نظيراتها في باكستان المجاورة الدولة، ودعمت المجموعات شبه العسكرية التي تعبر إلى داخل أفغانستان وخارجها. وتُعد حركة طالبان امتدادًا حديثًا للنظام القَبَلي في باكستان، حيث تعمل الحركة في بعض الأحيان ضد الدولة في إسلام آباد وتعمل معها في أحيانٍ أخرى.
وينتقد جوها الطريقة التي يتحدث بها الأكاديميون والصحافيون وصُنَّاع السياسات بصفة عامة عن القبائل، ذلك أنهم يصفونها بعبارات لا تتبدل، ومُثقلَة على نحوٍ شبه حتمي بافتراضات تتعلَّق بالدونية الثقافية. وإذا كانت الدول رشيدة ومبتكِرة، توصَف القبائل بأنها جامدة وملتزِمَة بالتقاليد. ولا يستطيع الأمريكيون من جميع الأطياف السياسية زعزعة الاعتقاد الذي عرفوه جيدًا عن أفراد القبائل في أفغانستان، حيث أمضوا 20 عامًا في محاولة تنظيمهم ليكونوا جيشًا حديثًا وبيروقراطية حكومية تدير شؤون البلاد. ولا يصف جوها عالَمًا بديلًا من المثالية القَبَليَّة، ولكنه يُحطِّم بدلًا من ذلك الادِّعاءات التي تزعم أن الدولة يمكن أن تَحِل مَحل القبائل في أفغانستان وفي أماكن أخرى.
كيف تتكيف القبائل مع أهداف الدول وطقوسها؟
وبحسب التحليل، مع أن الدول القوية تحاول فرض طقوسها وأهدافها، تتكيف القبائل مع هذه الإجراءات وتقاومها ببراعة شديدة. وتتمتَّع هذه القبائل بميزة تتفوق بها على الدول، حيث تفضل بيئتها السياسية المجتمعات الريفية البسيطة واللامركزية. وقد لاحظنا تطوُّر هذا الحِراك على مدى عَقْدين في أفغانستان، والذي انتهى نهايةً عنيفةً للغاية. وقد رسمت طالبان الهيكل القَبَلي لأفغانستان وباكستان على نحوٍ أفضل بكثير من الولايات المتحدة؛ وتمكَّنت عن طريق هذه الوسيلة من النجاة من الهجمات الأمريكية المُتكرِّرة. ومن المُرجَّح أن تواجه حركة طالبان مقاومة من عِدَّة قبائل في المستقبل، خاصة في منطقة الشمال، ولكنها لن تحاول بناء دولة مركزية وبيروقراطية، كما حاولت الولايات المتحدة فعل ذلك.
ما العلاقة بين القومية والقَبَليَّة؟
وينوِّه التحليل إلى أن جوها تجاهل ظاهرة القومية في كتابه. ويبدو أنها أقوى من أي وقتٍ مضى في الصين وروسيا والهند والبرازيل، وعديد من المجتمعات الأخرى غير المتجانسة عِرقيًّا. وإذا حدث شيء من هذا، لأسفرت التحديات التي تطرحها الجهات الفاعلة الفرعية عن عودة المُسلَّحين إلى الادعاءات المتعلقة بالتفوُّق الوطني والحق في السيطرة على الآخرين.
وغالبًا ما يُدرَج العِرق في هذه الادِّعاءات القومية، لتحديد الأشخاص المنتمين وغير المنتمين. وعلى الرغم من إمكانية ربط العِرْق بالقبيلة، فإنه يرتكز بصفة عامة على خلفية وطنية أكبر. وتحشد الدول في الوقت الحالي ادِّعاءات التفوُّق العِرقي لتبرير عمليات طرد المواطنين، بل تنفيذ جرائم الإبادة الجماعية، بداية من رواندا ويوغوسلافيا السابقة ومرورًا بشبه جزيرة القِرْم وصولًا إلى شينجيانج وغيرها من المناطق الحدودية. ويبدو أن سلطة الدولة أضحت أكثر شراسة، كما يبدو أنَّها أيضًا أكثر عُرضة للهجوم.
وتتمثَّل حصيلة قراءة كتاب جوها في إدراك أن الدول ليست الخيار الوحيد المتاح، على الرغم من أنها تظل اللبنات الأساسية لمعظم النماذج والمؤسسات. ولا غرو، فالقبائل أيضًا حديثة ورشيدة ومبتكرة بالقدر نفسه. كما تتنافس القبائل داخل الدول وخارجها، فضلًا عن أنها تستحق الاهتمام ليس بوصفها جهات فاعلة قديمة يجب القضاء عليها، ولكن بوصفها عناصر مُكوِّنة مُشترَكَة للسياسة العالمية المعاصرة.
الحاجة إلى معرفة المزيد عن القبائل
ووفقًا للتحليل، تتمتَّع هذه الرؤى بأهمية بالغة لتحليل السياسات اليومية. ويجب أن يُحصِّل الدبلوماسيون مزيدًا من المعرفة المتعلِّقة بالقبائل التي تمارس نشاطاتها في المجتمعات الأجنبية. ويجب أن يتعامل صُنَّاع السياسات معها بوصفها شركاء تفاوض جادِّين. ويجب أن يعي القادة أن المؤسسات الحكومية التي يفضلونها ليست بالضرورة أفضل من البدائل القَبَليّة. وغالبًا ما تكون الممارسات المحلية هي الأحدث والأكثر ملاءمة لمواطنيها.
ويطرح التحليل سؤالًا: كيف أحدث هذا النهج فرقًا في أفغانستان خلال العَقْدَين الماضيين؟
ويجيب الكاتب: ربما كانت هناك بدائل لمحاولة بناء دولة أفغانية. ومنذ الأيام الأولى بعد هزيمة حركة طالبان في أواخر عام 2001، أدرك صُنَّاع السياسة الأمريكيون التحديات الجسيمة المُتمثِّلة في جَمْعِ قبائل البشتون والطاجيك والهزارة وعديد من القبائل الأخرى معًا في اتحاد سياسي واحد. وبناءً على تاريخ الولايات المتحدة، افترَض القادة أن ذلك الإجراء كان مُفضَّلًا، بيد أن التحليل الذي أجراه جوها يشير إلى اتجاه مختلف.
تشتيتُ النفوذ
وربما حاولت الولايات المتحدة أن تتوسَّط من أجل إنشاء مؤسسات سياسية مُنفصِلة للقبائل المختلفة التي لبَّت مطالبها الخاصة. ومن خلال تشتيت نفوذ الولايات المتحدة على نحوٍ أكثر تعمُّدًا من كابول إلى المناطق القَبَلية وتفضيل الحكم الذاتي الإقليمي على التكامل الوطني، ربما تكون واشنطن قد أقامت علاقات أكثر ديمومة. وقد يرفض هذا النهج الآمال المعقودة على إرساء الديمقراطية والتنمية من منظور غربي، ولكنَّه ربما يؤدي إلى زيادة الدوافع القَبَليَّة للعمل مع الولايات المتحدة بدلًا من العمل مع حركة طالبان والجماعات الأخرى.
وفي نهاية التحليل، يقول الكاتب: لا يمكننا أن نعرف مدى إمكانية أن يُحقِّق النهج القَبَلي في أفغانستان نجاحًا أفضل من الذي حققه المشروع الأمريكي لبناء الدولة. ويوفِّر كتاب جوها الأساس الذي يستند إليه بحث عميق واستكشاف مثير لذلك البديل. ولن تتوقف الولايات المتحدة عن محاولة التأثير في المجتمعات الأخرى، ولكن يجب أن تتَّخِذ إجراءات أفضل من تلك التي اتخذتها في أفغانستان. وسيكون الفهم الأكثر دِقَّة للقبائل بوصفها جهات فاعلة سياسية حديثة ضروريًّا لإجراء أي إصلاحات سياسية جادَّة. ويحتوي البحث الذي أجراه جوها على كثير من الفوائد التي يمكن تقديمها لمجتمع السياسة الخارجية. وفي الوقت الذي يُسطِّر فيه الكاتب تحليله عن أفغانستان، يُعدُّ هذا النوع من الكتب هي التي يحتاج المُتخصِّصون في السياسة الخارجية إلى قراءتها.