“ديماغوجية” ترامب تكشفُ عن سوأة الديمقراطية الأمريكية الزائفة..!
دَائماً ما كانت تطل علينا الولاياتُ المتحدة الأمريكية –بمناسبةٍ وبدون مناسبة– بأنها موطنُ الديمقراطية الأول، وقِبلةُ الأمن والسلام، ومنارة العدل والحرية، وعنوانُ القوة والمنعة، إلى آخر تلك المصطلحات الهوليوودية، والتي أثبت الواقعُ زيفَها وبُطلانَها، والشواهدُ على ذلك لا يمكن حصرها، غير أننا وفي هذه المساحة الضيقة سنحاولُ سردَ بعضٍ من تفاصيل القصة الخبرية التي أثارت فضولَ الكثير من المتابعين والمهتمين، إذ لم تنتهِ رئاسة دونالد ترامب بهدوءٍ كما هو الحال بل بدراما صاخبة، ولأسابيعَ جاءت محمومة وتشنجية، وكان يوم السادس من يناير، على اعتبارهُ يومَ الحسم، فترامب قد طلب من أنصاره القدومَ إلى واشنطن العاصمة، وتحدّى الكونغرس ونائب الرئيس مايك بنس لإجبارهم على تجاهل نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت في نوفمبر الماضي وإبقاء الرئاسة في يديه.
وفي صباح الأربعاء الفائت، أطلق ترامب والمتحمسون له العنانَ للزوبعة، وقال رودي جولياني، المحامي الشخصي للرئيس: يجب حَـلَّ الخلافات الانتخابية في “ميدان المعركة”، وكانت رسالة نجل دونالد ترامب الأكبر لأعضاء حزبه الذين لن “يقاتلوا”؛ مِن أجلِ رئيسهم: “لم يعد هذا حزبهم الجمهوري بعد الآن، إنه حزبُ دونالد ترامب الجمهوري”.
وقال ترامب مخاطباً مريديه: “لن نتراجع، لن نستسلم، لقد بلغ السيلُ الزُّبى، لم يعد بلدنا يتحمل أكثر من ذلك”، بينما كان الرئيس يختتم تصريحاته، كان هناك نوع مختلف من الدراما تجري داخل مبنى الكابيتول نفسه، حَيثُ كان يتأهب مجلسا الشيوخ والنواب لعقد جلسته للمصادقة على نتائج الانتخابات في كُـلّ ولاية على حدة.
هُنا تجاهل مايك بنس دعوة ترامب له باستبعاد نتائج الانتخابات في الولايات التي خسر فيها وأصدر بياناً قال فيه بأنه “لا يتمتع بمثل هذه الصلاحيات وإن دورَه تشريفي إلى حَــدٍّ كبير”.
ثم تقدم الجمهوريون بالالتماس الأول لإبطال نتائج الانتخابات في ولاية أريزونا، وبدأ مجلسا النواب والشيوخ مداولاتهما المنفصلة حول المصادقة على فوز جو بايدن في الولاية، وكانت أجواءُ الجلسة صاخبة، حَيثُ كان كُـلُّ طرفٍ يشيدُ بصوتٍ عالٍ، بكلمات المتحدثين من فريقِه.
وقالت عضوةُ الكونغرس المنتخبة حديثاً، لورين بوبرت، التي تصدرت عناوينَ الصحف مؤخّراً بعد أن أكّـدت أنها ستحملُ معها مسدساً إلى الكونغرس: “لن أسمحَ بأن يتم تجاهُلُ إرادَة الناس”، وأضافت: “إن القَسَمَ الذي أديته يوم الأحد الماضي للدفاع عن الدستور وصونه يلزمني بالاعتراض على هذه المهزلة”.
وفي مجلس الشيوخ، كان النقاش يدور بنبرةٍ مختلفة، فزعيمُ الأغلبية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، الذي كان يرتدي بدلةً داكنة وربطةَ عنق تناسبُ حضورَ جنازة، كان حاضراً هناك ليس للثناء على ترامب بل لدفنه سياسيًّا.
وفي الوقت الذي كانت لا تزال صدى كلمات ماكونيل الجنائزية تتردّد في الأجواء، احتشد أنصارُ ترامب في الخارج وبدأت المشاعرُ بالغليان، ربما بفعل خطاباتِ ترامب السابقة، اقتحموا المبنى الأكثرَ أمناً في العالم، والذي لم يكن فيه عناصرُ أمن بما فيه الكفاية، مَا اضطر الكونغرس لإيقاف الجلسة، حَيثُ سارع المشرعون والموظّفون ورجال الإعلام إلى البحث عن ملاذٍ آمن لحماية أنفسهم من مثيري الشغب.
وتكشفت الدراما التي حصلت في مبنى الكابيتول بالتدريج، بثت كاميرات التلفزيون صورَ متظاهرين يرقصون ويلوحون بالأعلام على سلالم مبنى الكابيتول، ثم انتشرت صورُ ومقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي لمثيري الشغب الذين اقتحموا المبنى، والتقطوا صوراً لهم داخل مكاتب المشرعين المنتخبين، والغرف الخالية من عناصر الأمن، كما ظهرت صور عناصر الأمن وهو يشهرون أسلحتهم خلف الأبواب المحصنة في مجلس النواب.
وفي المشهد المقابل، ومن “ولاية ديلاوير”، ألغى الرئيسُ المنتخب جو بايدن خطاباً كان قد خطّط لإلقاء كلمة حول الاقتصاد، وأدان ما أسماه “العصيانَ” في واشنطن، وقال: “تتعرض ديمقراطيتنا في هذه اللحظات لهجومٍ غير مسبوق لم نشهد مثيلاً له في العصر الحديث، إنه اعتداء على حصن الحرية، مبنى الكابيتول نفسه”.
واختتم تصريحاته الموجزة موجهاً كلامه لترامب، طالباً منه “الظهور على شاشات التلفزيون وإدانة العنف وَالمطالبة بإنهاء حصار الكونغرس”.
وبعد دقائقَ، ظهر ترامب موجِّهاً رسالةً إلى الشعب الأمريكي، لكنها لم تكن الرسالة التي طالب بها بايدن، فبدلاً عن ذلك، قال لمؤيديه: “عودوا إلى منازلكم، نحن نحبكم، أنتم مميزون للغاية”، مكرّراً اسطوانته المألوفة عن “سرقة الانتخابات وتزويرها”.
لقد كان نوعاً من رفع العتب فقط، والذي كان يمارسُه ترامب بشكلٍ دائمٍ للرد على تجاوزات مؤيديه سواء كانت لمعاملتهم العنيفة للمتظاهرين المناوئين له عبر تكرار مقولة “الأشخاص الرائعين من الطرفين” كما كان الحال في تعليقه على الاشتباكات التي دارت في مظاهرة لأنصار “تفوُّق العِرق الأبيض” في شارلوتسفيل عام 2017م، أَو في دعوته “إرجع وقف جانبا” لمجموعة “براود بويز” المتطرفة خلال المناظرة الأولى مع بايدن.
وحتى لا تخرج الدراما عن النص، قام موقع تويتر بوضع تحذير على تغريدة لترامب وتغريدتين لاحقتين له أشاد فيهما بأنصاره وما لبث أن حذف تويتر التغريدات الثلاث واتخذ خطوة غير مسبوقة في إغلاق حساب الرئيس لمدة 12 ساعة، وحذت فيسبوك حذوه وحظر ترامب ليوم كامل، ولأول مرة خلال فترة رئاسته، ورغم علاقته الطويلة والوثيقة مع وسائل التواصل الاجتماعي، تم إسكات دونالد ترامب.
وخلال فترة ما بعد الظهر وحتى المساء، قامت الشرطة أخيرًا بتأمين مبنى الكابيتول، بعد مقتل ضابط وجرح أكثر من خمسين عنصرا أمنيا، أكثرها كانت حظيرة، وتعالت الأصوات تنديداً بما جرى.
ولم يكن مفاجئاً أن الديمقراطيين، مثل تشاك تشومر الذي سيصبحُ قريباً زعيمَ الأغلبية في مجلس الشيوخ، حمّلوا مسؤولية أعمال الشغب والعنف للرئيس، وقال: “سيصبح يوم 6 يناير، واحداً من أحلك الأيّام في التاريخ الأمريكي، وما جرى هو تحذير أخير لأمتنا من عواقب تصرفات رئيس ديماغوجي، وتحذير لمن يسايرونه، ولوسائل الإعلام الواقعة في أسره والتي تردّد أكاذيبه، ومن يسير خلفه وهو يحاول دفع أمريكا إلى حافة الانهيار”.
لكن الأهم من ذلك هم الجمهوريون الذين حذوا حذوه، حَيثُ كتبت لين تشيني، عضوة الكونغرس، التي كانت تنتقد الرئيس الجمهوري بشكل متكرّر على تويتر: “لقد تعرضنا للتو لاعتداء في الكابيتول في محاولة من هؤلاء لمنعنا من أداء واجبنا الدستوري، ليس هناك شك في أن الرئيس جمع الغوغاء وخاطبهم وحرضهم على القيام بذلك”.
ولكن الإدانات لم تقتصر على معارضي ترامب داخل الحزب، كما تحدث السيناتور توم كوتون، الذي غالبًا ما يقف إلى جانب ترامب، حَيثُ قال كوتون: “لقد حان الوقت أن يقبل الرئيس بنتائج الانتخابات، ويتوقف عن تضليل الشعب الأمريكي، وينبذ عنف الغوغاء”.
في المشهد، استقالت كُـلٌّ من كبيرة موظفي مكتب السيدة الأولى ميلانيا ترامب، ستيفاني غريشام ونائبة مدير مكتب البيت الأبيض للإعلام، سارة ماثيوز؛ احتجاجاً على العنف الذي حصل، وهناك تقارير تفيد بأن المزيد من مسؤولي الإدارة تركوا مناصبَهم في غضون الـ24 ساعة الماضية.
وذكرت شبكة سي بي إس، أن مسؤولين في إدارة ترامب يناقشون اللجوءَ إلى المادة 25 من دستور الولايات المتحدة، والتي تحدّد آلية عزل الرئيس من منصبه من قبل نائب الرئيس وغالبية أعضاء الحكومة الخمسة، وسواء لجأ مايك بنس وأعضاء الحكومة إلى تفعيل هذه المادة أم لا، فَـإنَّ رئاسة ترامب ستنتهي في غضون أسبوعين فقط.
وقد تنذر أحداثُ الأربعاء (السادس من يناير) بمعركةٍ ضارية حول السيطرة على الحزب، حَيثُ يحاول المحافظون داخل الحزب إبعاد ترامب وأنصاره عن قيادة الحزب، ويبدو أن ماكونيل، في ضوء تصريحاته في وقت سابق من يوم أمس، على استعداده السير في هذا الطريق، وقد يتولى آخرون مثل السيناتور ميت رومني، المرشح الجمهوري السابق للرئاسة دوراً قيادياً حاسماً في هذا المسعى.
غير أن الحبكة في المشهد رأت بأن يكون السيناتور جوش هاولي، أول سيناتور يعلن بأنه سيعترضُ على نتائج الانتخابات في مجلس الشيوخ، وظل على موقفه في رفض نتائج الانتخابات حتى بعد عودة مجلس الشيوخ للانعقاد عقب انتهاء أعمال العنف، وذلك سعياً منهُ لعدم إلحاق صفة “الرئيس المخلوع” للرئيس ترامب.
ولعل القصة الناشئة لم تنتهِ بعد، فمثلما كشفت هذه الأزمة عن هشاشة النظام الديمقراطي الأمريكي، وأبدت سوءاته للعلن، وحطمت تلك الهالة البراقة والزائفة عنه، فقد مثلت أَيْـضاً فرصةً سياسيةً مواتيةً، فهناك العديدُ من السياسيين الأحرار الذين لن يتردّدوا في استغلالها للتحرّر من هيمنة الرموز القيادية التقليدية التي تحتكر السلطة، والمال، والإعلام لمصالحها الخَاصَّة، ولتدعيم مشاريعها وتوجّـهاتها المتمثلة بالهيمنة على العالم، ولعل الساعات القادمة ستشهد تحولاتٍ مفاجئة، فكونوا على انتظار.