بوابةُ الدمــوع.. عنــوانُ الصراع القائـم والقـادم (1)
عبــدُالقـــوي السبـــاعي
بوابةُ الدموع أَو بابُ المندب بكلِّ الأساطير التاريخية القديمة حولَها التي تنشُرُ الخوفَ والفزعَ والموتَ للبحّارة العابرين، إلى البحرِ الأحمر شمالاً أَو إلى خليج عدن فالمحيط الهندي جنوباً، فمضيقُ باب المندب لا يزيد اتّساعُه عـن ٢٠ ميلاً تتولّى جزيرةُ ميون اليمنية تقسيمَه بشكلٍ يعيقُ الملاحةَ المريحةَ والانسيـابـيـة، فالجزيرةُ تقسمُه إلى ممرَّين أحدهما بالغ الضيق وهو الممر الشرقي بعرض أقلَّ من ميل فحسب، والآخر في الغرب بعرض يصل إلى ١٦ ميلاً تنتشر فيه الجزرُ الصغيرة (مجموعة جزر فاطمة) والشعاب المرجانية التي تزيد من وعورة الملاحة، ورغم أن عمقَ هذا الممر في معظـم مـيـاهـه يـصـل إلى ٩٩٠ قدماً فإن هـذا العمقَ في الممر الشرقي يقلُّ حتى يصلُ في بعض أجزائه إلى نحو ٨٥ قدماً فقط.
لو تأملنا فإن البحرَ الأحمرَ عبارةٌ عن جسم يمتد طولياً ما بين السويس في أقصى الشمال وما بين بوابة الدموع أَو باب المندب في أقصى الجنوب، وكلتاهما تُمثّل خانقاً وقابضاً وحاكماً يحصر مياهَ البحر طبيعياً ويحاصره جغرافياً ويتحكّم فيه استراتيجياً، حتى يكاد يُحوّله إلى بحيرة مستطيلة مغلقة، وهو بهذا التحديد يتصل من ناحية الشمال بخليج السويس وخليج العقبة كما يتصل من ناحيةِ الجنوب بخليج عدن المفتوح على ميـاه المحيط الهندي، تبلغ مساحتُه الإجمالية نحو ٣٠٦٩ ميلاً مربعاً تقريباً، وَإذَا أخـذنـا نقطةً شمالية عند السويس، ونقطةً جنوبية عند بـاب المندب فـإن الـطـولَ يبلغ ١٢٠٠ ميل، ويبلغ أقصى اتساع له حوالي ١٩٠ ميلاً فيما بين مصوع على الساحل الإرتيري الأفريقي وجيزان على الساحل الشرقي الآسيوي بيـنـمـا يبلغ أقل اتّساع له نحو ٤٠ ميلاً فقط، فيما بين عصب على الساحل الغربي وَالمخا على الساحل الآسيوي.
لقد اكتسب البحرُ الأحمرُ أهميّة سياسيةً واستراتيجيةً واقتصاديةً منذُ عصور التاريخ السحيقة؛ وذلك لأن القدماءَ أَيْـضاً عرفوا فيه ميزةَ الربط بين الساحل الآسيوي عند شبه الجزيرة العربية والساحل الإفريـقـي عـنـد مصر ثم إلى شمال أفريقيا وعنـد الـسـودان والـصـومـال إلى الهضبة الحبشية وقـلـب الـقـارة السوداء وعرفوا فيه كذلك ميزةَ الربط بين المحيط الهندي جنوباً والبحر الأبيض المتوسط شمالاً كأقصر الطريق للملاحة ومن ثم للتجـارة، وبـالـتـالـي لـنـشـر النفوذ السياسي والعقائدي من خلاله.
وخلال كُـلّ المحاولات التي نفّذها القدماءُ –سواءً الممالك اليمنية القديمة أَو الفرعونية أَو الفينيقية– لتحديد مسالك الملاحة في البحر الأحمر، فقد كان الهدفُ الاقتصادي والسياسي واضحاً ومحدّداً في عقول أولئك الذين قاموا بمثل هذه المغامرات في بحار مظلمة مجهولة لا تمثل لهم سوى الغرق والظلام والضياع، لكنهم بالإصرار والمثابرة وشجاعة الارتياد والاستكشاف تمكّنوا في النهاية من أن يجدوا حبلَ الاتصال الاستراتيجي بين الشواطئ الشرقية وبين الشواطئ الغربية، وهو ذلك الحبلُ الذي ما زال حتى اليوم يُمثّل أهميّة جيوبوليتكية واستراتيجية بالغة عند واضعي القرار السياسي ومخطّطي الاستراتيجيات ومحركي الصراعات الإقليمية والدولية، سواءٌ أكانت الصراعاتُ بين الشعوب القديمة سواءً في اليمن –التي كانت منطلقاً للهجرات السامية إلى القارة السمراء والتي لا زالت حتى اليوم بعضُ القبائل الأفريقية تتباهى بأصولها اليمنية– أَو مصر وسواحل أفريقيا، أَو بين دويلات العصور الوسطى، أَو بـين إمـبـراطـوريـات الاستعمار الأوروبي، في القرن التاسع عشر المتمثّلة في بريطانيـا وفـرنـسـا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا، أَو بين القوى العظمى في القرن العشرين المتمثّلة بالاتّحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية أَو بين القوى العظمى في عصرنا الراهن –رغم السعي الحثيث لأمريكا إلى فرض استراتيجية القطب الواحد– فإنَّ البحرَ الأحـمـرَ بمدخـلـه الـشـمـالـي عـنـد السويس ومدخله الجنوبي عند باب المندب والقرن الأفريقي ظلَّ وسيظلُّ يلعب دوراً هامّاً في محور الصراع في هذه المنطقة من العالم.
وبهذا المفهوم يصبح البحرُ الأحمرُ الـيـوم –كمــا كـان فـي الماضـي– محـور الصراعات الإقليمية والدولية، فالمستفيدون من تجارة الشرق كانوا يحمون أمنَ طريق هذه التجارة بأساطيلهم وجيوشهم التي احتلت عديداً من البلدان الواقعة على هذا الطريق والمستهلكون للبترول اليوم يهيمنون ويدافعون بكلِّ قوة لتأمينه، فإذا كان قديماً هو طريقُ التوابل واللُبان فقد أصبح حديثاً طريقَ البترول، وكانت التجارةُ ما بين الغرب الأوروبي والشرق الآسيوي تمثل عصبَ الحياة للدول الكبرى في العصور الماضية، فأصبح البترولُ الخام المنـقـول مـن بـحـيـرات إنتاجه الواسعة في الخليج والجزيرة العـربـيـة وإيران إلى مـصـادر استهلاكه في أوروبا وأمريكا، يمثل بدرجة أكثر وأوضح عصب الحياة للدول الصناعية والمتقدّمة في العصور الحديثة، وَإذَا كان تهديدُ طريق التجارة ما بين الشرق والغرب في العـصـور الماضـيـة يُمثّل تهديداً للأمن العالمي والإقليمي، أصبح تهـديـدُ طـريـق الـبـتـرول بين الشرق والغرب في العصور الحالية يُمثّل تهديداً للسلام والأمن الـعـالمي بدرجةٍ أخطر يرقى إلى مرتبة إعلان الحرب الشاملة.
وبالنظر إلى كُـلّ هذه الأهميّة الاستراتيجية قديماً وحديثاً على السواء، فقد جلب الواقعُ الجغرافي للبحر الأحمر المتاعب والمشاكلَ للـدول المـطـلـة على سواحله أَو حتى القريـبـة مـنـه، وَإذَا كـان هـو طـريـق الحـيـاة والـتـجـارة والبترول والثراء للآخرين فقد لعب دور طريـق الآلام لأصحاب سـواحـلـه، والذي لا شكَّ فيه أن أولئك الذين يملكون السواحلَ المتـحـكـّمـة فـي نـقـاط اختناقه عند المدخل الشمالي خَاصَّة مصر، وعند المدخل الجنوبي خَاصَّة اليمن، قد تحملوا العبءَ الأكبر والأصعبَ من تلك الآلام والمصاعب على مرِّ التاريخ.