صفاتٌ تحلى بها الإمامُ الحسن عليه السلام
أم مصطفى محمد
إن من أقوى العلل في ظهور الشرائع السماوية وبقاء سلطانها الروحي عنايتها بالأخلاق واهتمامها بتهذيب النفوس وتربيتها بالنزعات الخيرة، ولذلك نجد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد اهتم بجانب الأخلاق اهتماماً بالغا فاعتبرها من أبرز الأسباب التي بُعث من أجلها (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم فِي عظيم أخلاقه مثالا للرحمة الإلهية التي تملأ القلوب البائسة الحزينة رجاء ورحمة، ولكون الإمام الحسن عليه السلام هو تربية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فقد مثل هذه الأخلاق أحسن تمثيل، حَيْــثُ توفرت في الإمام الحسن عليه السلام الصفات الرفيعة والمُثل الكريمة وتجسدت فيه طاقات الإسْـــلَام وعناصره ومقوماته فهو بحكم قابلياته ونزعاته فذ من أفذاذ العقل الإنْسَاني ومثل من أمثلة التكامل البشري وعظيم من عظماء الإسْـــلَام.
لقد بلغ الإمام الحسن عليه السلام الذروة في فضائله ومآثره وأصالة رأيه وسمو تفكيره وشدة ورعه وسعة حلمه ودماثة أخلاقه وغيرها من الملكات التي كان بها موضع اعتزاز المسلمين وفخرهم، فنجد من تلك الأخلاق التي امتاز بها عليه السلام خلق التواضع فها هو يجتاز على جماعة من الفقراء قد وضعوا على وجه الأرض كسيرات من الخبز كانوا قد التقطوها من الطريق وهم يأكلون منها فدعوه إلى مشاركتهم فأجابهم إلى ذلك وهو يقول (إن الله لا يحب المتكبرين) ولما فرغ من تناول الطعام دعاهم إلى ضيافته فأطعمهم وكساهم وأغدق عليهم بنعمه وإحسانه، كما نجده عليه السلام يمرّ على صبيان يتناولون الطعام فدعوه لمشاركتهم ذلك الطعام فأجابهم عليه السلام إلى ذلك ثم حملهم إلى منزله فمنحهم بره ومعروفه وقال (اليد لهم؛ لأَنَّهم لم يجدوا غير ما أطعموني ونحن نجد مما أعطيناهم) كما نجد من مكارم أخلاقه عليه السلام أنه كان يتغاضى عمن أساء إليه ويقابله بالإحسان فقد كانت عنده شاة فوجدها يوما قد كُسرت رجلها فقال (عليه السلام) لغلامه (من فعل هذا بها؟ فقال الغلام أنا فقال عليه السلام: ولم ذلك؟ فقال الغلام: لأجلب لك الهم والغم، فتبسم (عليه السلام) وقال له: لأسرنك، فاعتقه وأجزل له في العطاء) كما نجد من عظيم أخلاقه عليه السلام أنه كان جالسا في مكان فأراد الانصراف منه فجاءه فقير فرحب به ولاطفه وقال له: إنك جلست على حين قيام منا أفتأذن لي بالانصراف؟؟ فقال الفقير: نعم يا ابن رسول الله).
لقد كانت صفة الكرم وَالسخاء من أبرز الصفات التي تميَّز بها الإمام الحسن (عليه السلام) فقد كان المال عنده غاية يسعى من خلالها إلى كسوة عريان أَو إغاثة ملهوف أَو وفاء دين غريم أَو إشباع جوع جائع ولذلك عُرف الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) بكريم أهل البيت فلقد أخرج ماله كلّه مرتين في سبيل الله ولم يبقي لنفسه شيء، فهو عليه السلام كان كجدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعطي عطاء من لا يخاف الفقر وهو عليه السلام سليل الأسرة التي قال فيها تعالى (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وهو ممن حكى عن حالهم القُـــرْآن بقوله (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيْرًا إنما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا)، فهذا هو الأصل الكريم لإمامنا الحسن (عليه السلام) الزكي والمنبثق من الشجرة الطيّبة التي تؤتي أُكلها كُـــلّ حين فكان يُضرب المثل بكرمه وسخاؤه، ولعل السخاء الحقيقي هو بذل الخير بداعي الخير وبذل الإحسان بداعي الإحسان، حَيْــثُ تجلت هذه الصفة الرفيعة بأحلى مظاهرها وأسمى معانيها في الإمام الحسن (عليه السلام) حتى لُقب بكريم أهل البيت فلقد كان السخاء عنصر من عناصر ذاته ومقوم من مقومات مزاجه ولقد نُقل عنه عليه السلام أنه ما قال لسائل (لا) قط وَلقد قيل له لأي شيء لا نراك ترد سائلاً؟ فأجاب (عليه السلام): ((إني لله سائل وفيه راغب وأنا استحي أن أكون سائلاً وأرد سائلاً، وإن الله عودني عادة أن يفيض نعمه عليَّ، وعودته أن أفيض نعمه على الناس، فأخشى إن قطعت العادة أن يمنعني العادة)) وأنشد يقول:
إذا ما أتاني سائل قلت مرحبا *** بمن فضله فرض علي معجل
ومن فضله فضل على كُـــلّ فاضل *** وأفضل أيام الفتى حين يُسأل
إن الإنْسَان كلما ازداد معرفة بالله ازداد إيْمَــاناً به وحباً له وانقياداً لأوامره وطاعته وسعيا في جميع الوسائل التي تقربه إليه ولكون الإمام الحسن عليه السلام قد تغذى بلباب المعرفة وبجوهر الإيْمَــان وبواقع الدين فانطبعت مُثله في دخائل نفسه وأعماق ذاته نجده كان من أشد الناس إيْمَــاناً ومن أَكْثَـــرهم إخلاصاً وطاعة لله تعالى ولقد تحدث الرواة عن مدى طاعته فقالوا: (إنه لم يُرَ في وقتٍ من الأوقات إلّا وهو يلهجُ بذكر الله تعالى وإنه كان إذَا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم فسأل الله الجنة وتعوذ من النار وكان إذَا ذكر الموت وما يعقبه من البعث والنشور بكى بكاء الخائفين والمنيبين وكان إذَا ذكر العرض على الله شهق شهقة يغشى عليه منها، ولقد كان عليه السلام من أشد المعتبرين بالموت فإذا حضر جنازة ظهرت عليه السكينة أياما وَإذَا مات في جواره ميت سمع منه النحيب والبكاء كما يُسمع من دار الميت) فدلت هذه الأمور على عظيم طاعته وخوفه من الله، كما كان عليه السلام إذَا أراد الوضوء تغير حاله وداخله خوف عميق حتى يصفر لونه وترتعد فرائصه وسُئل عن سر ذلك فقال (حق على من وقف بين يدي رب العرش أن ترتعد فرائصه ويصفر لونه) وكان إذَا فرغ من الوضوء وأراد الدخول إلى المسجد رفع صوته قائلاً: (إلهي ضيفك ببابك يا محسن قد أتاك المسيء فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم) وكان إذَا أقبل على صلاته بدا عليه الخضوع والخشوع وظهر عليه الخوف حتى ترتعد جميع فرائصه وأعضائه وكان إذَا فرغ من صلاة الفجر لا يتكلم إلا بذكر الله حتى تطلع الشمس، ومن مظاهر عبادته وعظيم إخلاصه وطاعته لله تعالى أنه حج بيت الله الحرام خمسا وعشرين حجة ماشيا على قدميه وكانت النجائب تقاد بين يديه وسئل عن كثرة حجه ماشيا فأجاب (إني استحي من ربي أن لا أمضي إلى بيته ماشيا على قدمي)، ولقد كان عليه السلام يتلو الذكر الحكيم تلاوة إمعان وتدبر فلا يمر بآية تشتمل على نداء المؤمنين إلا قال: لبيك اللهم لبيك، وكان يقرأ في كُـــلّ ليلة سورة الكهف ولقد رفض عليه السلام جميع مباهج الحياة وزهد في ملاذها ونعيمها واتجه إلى الدار الآخرة التي أعدها الله للمتقين من عباده فهو القائل:
لكسرة من خسيس الخبز تشبعني *** وشربة من قراح الماء تكفيني
وطرة من دقيق الثوب تسترني *** حيا وإن مت تكفيني لتكفيني