الشرعية : برلمان خارج الزمن وجيش خارج الجبهات
الشرعية : برلمان خارج الزمن وجيش خارج الجبهات
متابعات:
جلسة نواب بلا دولة وهي تبث على موجة الفارّين لا تعدو كونها مراوغة الطريد الذي يتحلى بالنزعة الهروبية وليس بعزيمة الفرسان الذين يواجهون تحديات الواقع بالتضحية والتجرد عن المصالح… وجوه مترفة، لا تعكس حقائق الحرب المدمرة، تتسلل عبر طائرات خاصة إلى عاصمة وادي حضرموت في مشهد يعبر عن مقايضة هزيلة بين الفشل العسكري المتسلسل منذ 2015م، وشراء نصر سياسي لبرلمان عابر للأزمنة والمنعطفات، يعاد تجميع أشلائه عند الحاجة ثم ينعقد بعد تحضير إعلامي صاخب، مع متلازمة تقنية “السّسبنس” الدعائية التي يجيدها المحترفون من يعتبرون الإعلام ساحتهم القتالية، لتصفق له الشاشات بعد ذلك، إلى درجة أن المتابع يحس بأن الجلسة تحتاج إلى معلق رياضي يجيد الزعيق والإثارة أكثر من حاجتها إلى خطاب سياسي يحاول إقناع خلق الله الهالكين في نار البلاد الموقدة.
الداخل والخارج على دراية تامة بأن التقدم في ميادين الحرب على الأرض خير من ألف جلسة لنواب بلا دولة، خاصة وأنهم لا يتذكرون متى ذهب “ناخبوهم” إلى الصناديق، ليس بحساب السنين الغاربات فقط وإنما من زاوية الأحداث التي أطاحت بعقول وأرواح الناس وغيرت كل شيء حتى مذاق الماء ورائحة الهواء.
لكنها كما تبدو لم تغير في الهاربين عنترياتهم القديمة ولغة الضواري حين تتاح لهم فرصة التنفس في المايكات، دون إدراك بأن الشعب لم يكن ينتظر كل هذه السنين حتى يهلّوا عليه برقصة الهاكا المتلفزة وإنما ظل يتوقع من جيوشهم الكثيرة المثيرة نصر حقيقي في الميدان… نصر واحد أو حتى نصف نصر أو أقل من ذلك، ليسد فضول العالم وحاجته إلى تصديقهم بعد أربع سنوات تضليل واختلاق معارك جانبية هنا وهناك.
كل قوات التحالف وجيوش الشرعية التابعة للإخوان لم تشكل أي حالة ضغط لتجبر الحوثي على التفاوض وهو منزوع الغطرسة، بل العكس اصبحت الشرعية تمد يد السلام ولم تعد تتحدث عن رفع العلم في صنعاء أو مران خاصة بعد انزياح هدفيتها نحو عدن والجنوب.
رأينا ذلك في الإعلام الذي لم يعتبر تحضير الجزء الممكن من المجلس النيابي خطوة ضرورية لاستباق برلمان الحوثي وإنما تم تسويقه وكأنه انتصار ضد الجنوب وقضيته، بمعنى أن الأحزاب الشمالية ما تزال تعتبر أن معركتها الحقيقية جنوباً وليس شمالاً حوثياً حتى بعد أن تبلبلت ألسنتها وفرقتها الأحداث الكبيرة.
أي أنه بعد كل الكوارث تظل النظرة إلى الوحدة تنبعث من داخل (مصالح النخب الشمالية) بعد أن بادت الأيديولوجيا التي أثخنت “بواطن المبتدئين” في زمن الستينات نقوشاً وجدانية وحولت مفهومها إلى مقدس عاطفي، وقدر مكتوب ومصير محتوم. لهذا وبعد ربع قرن ماتزال نفس الفئة الباغية تسعى لأن تتحكم بالمشهد، وما تزال بعد حرب أشد من سابقتها قتلا وتدميراً، تحمل نفس شعار الوحدة أو الموت مضيفة إلى ذلك عبارتها الخشبية: “أصحاب المشاريع الصغيرة”، وهي عبارة بالكاد التصقت بأدمغة أصحاب مشاريع الكوارث المتتالية ليغطوا عن جرائمهم التاريخية.
ومع كل إخفاقاتهم وركود جبهاتهم، إلا أنهم يتلقون دعم لا محدود من المملكة دون أي اجتهاد لتقييم الموقف! فأي شيء يمكن أن يفسر هذه الظاهرة العجيبة المريبة؟
قد يُجاز أي تفسير هنا، خاصة إذا ما راجعنا مجريات الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط وميزان النجاح والإخفاق لسياسة المملكة السعودية وأدواتها.
الجنوب دخل المعترك الميداني من بوابة حرب 2015م ولم يدرك حينها انه سوف ينتصر بشروط قاسية للغاية ليظل محارباً مُستنزف دمه، بينما شعبه يكتوي بالفقر والمعاناة والشتات المعنوي.. مسحوق بالمفارقات حين يرى نعوش أغلى الرجال محمولة بلا حفاوة إلى مقابرها قبل أن يطويها النسيان، بينما تسخر المملكة كل إمكاناتها لتحقيق الرفاهية والبرستيج لنخب لم يعد يهمها من الواقع سوى المصالح والأضواء واستمرار الحرب والربح.
لقد ادرك المحررون الجنوبيون بصورة متأخرة أنهم لم يحققوا “سرعة الإفلات” وامتلاك اختيار اللحظة بأيديهم، قبل أن تحيط بهم حرب نائمة وفوضى نامية وقبل أن يعاني المشهد من تعقيدات تتراكم مع الوقت.
لهذا أصبحت القضية الجنوبية منقوشة على جدارية “ولاة الأمر الجدد” بملامحهم الزيتية الغامضة من خلفها، دون أن تتحرر من نظرات العابرين الذين يرمون أبصارهم بارتباك قاس وقد فتكت بهم حالة الانتظار ولعبة “التشاؤل” اليومية.
إنه الوجع الجنوبي الذي يقدم دمه في الجبهات ثم يبذل جهداً لإقناع قنوات الأخبار والعالم بأنه دمه هو وليس دم الآخرين.. لقد قتلوه وباعوا جثته مقابل لوحة الغموض الأخير، في مقايضة صالحة للتندر التاريخي لا تختلف أبداً عن السابقين الذين اجتهدوا لتصدير دولة الجنوب إلى صنعاء ونفذوا فيها حكم التسريح وهي مكبلة الروح والوجدان في مايو 90م ثم عادوا ليبذلوا جهود كبيرة لإقناع العالم بأنهم كانوا يمتلكون دولة مستقلة ولم تكن جزءاً تابعاً. ومع ذلك يظل الأمل في أن الليلة لا تشبه بارحة حولت الجميع إلى كتلة من الندم.
قراءة : د . أحمد علي عبداللآه ـ كاتب وخبير نفطي مقيم في كندا