مشكلةُ النفس وتعلُّقُها بالحياة الدنيا
أم مصطفى محمد
من المعلومِ أن الإنْسَانَ عندما يشمِّرُ عن ساعد الهمّة ويعقد النيّة على اتّباع طريق الحق وسلوك درب الآخرة ولقاء المحبوب الأوحد والكمال المطلق، وينزل إلى ساحات العمل والجهاد فَإنَّه لا بُدَّ له أن يصطدم بمجموعةٍ من الموانع والعراقيل التي تقف حجر عثرةٍ أمام تكامله وتدرّجه في مراتب القرب من الحق، ولعل المانع الأخطر والاشد فتكا وأذىً لهذا الإنْسَان هي نفسه التي بين جنبيه! فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال “أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك) والمقصود بالنفس هنا النفس الأمّارة بالسّوء التي توقع الإنْسَان في المعاصي والأخطاء، حَيْــثُ تتلوّث هذه النفس بالذنوب المبعدة عن ساحة القدس الإلهي وجنّة لقائه، ولقد وصفها الإمام زين العابدين عليه السلام في مناجاة الشاكّين بقوله “إلهي إليك أشكو نفساً بالسّوء أمّارة، وإلى الخطيئة مبادرة وبمعاصيك مولعة، ولسخطك متعرّضة، تسلكُ بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك كثيرة العلل، طويلة الأمل”.
فالنفس الإنْسَانية بحدّ ذاتها جوهرة لطيفة وطاهرة من كلّ دنس وخبث وهذا ما أشار إليه القُــرْآن الكريم بقوله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ولكنّ هذه النفس عندما تعلّقت بعالم المادّة واستغرقت بعالم الطبيعة أَكْـثَـر من الحدّ المطلوب نسيت الحياة الروحيّة الحقيقيّة في الآخرة والعيش المعنويّ وأخلدت إلى الأرض فتلوّثت بالمعاصي والصّفات السيّئة والأَخْــلَاق الرذيلة من البخل والحسد والطمع والأنانيّة والحرص والشهوة والغضب وغيرها من الصّفات الخبيثة، وما ذلك إلّا لأجل استجلاب الفوائد والمنافع الماديّة والتوسّع في الحياة الدنيا وتحصيل اللذّات الحسّيّة فقط، وكانت النتيجة أن ردّه الله تعالى إلى أسفل سافلين يقول تعالى (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) ولو شاء الله لرفعه إليه مجدّداً وقرّبه منه، ولكنّه أخلد إلى الأرض فكان مثله كمثل الكلب الذي يلهث من شدّة العطش أَو الإعياء فإنّه يستمرّ في اللهاث سواء تركته أَو زجرته، وهذا هو حال من أخلد إلى الحياة الدنيا واتّبع هواه، فَإنَّه ضالّ في كلّ حال سواء أرشدته إلى الحق ووعظته أم لم تعظه يقول تعالى (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث).
إن مشكلة النّفس تكمن في تعلّقها بالحياة الدنيا والاستغراق في ملذّاتها وشهواتها، وبالتالي ينتج عن هذا التعلّق الوقوع في المعاصي والذّنوب؛ بسَببِ مخالفة الأوامر والأحكام الإلهيّة، واتّباع أوامر النفس وما تهواه يقول الله تعالى (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) فتعلق الإنْسَان بالدنيا يغيّر مسيرته ويجعله ينغمس شيئاً فشيئاً في ظلمة الشهوات والأهواء النفسيّة وتصبح النفس هي الآمر والناهي في مملكة الإنْسَان لا الحقّ -سُبَـحَـانَه وَتَعَالَى- يقول الله تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) فيغفل الإنْسَان تماماً عن مسيرته الأصليّة وعن برنامج سعادته وكماله وعن عالم النور الواسع وعن جنّة الرّضوان؛ بسَببِ انشغاله بزينة الحياة الدنيا والعرض الأدنى، فإذا أراد الإنْسَان أن يعالج مشكلة النّفس التي تأمره بالسّوء من سلطة الأهواء النفسيّة والشهوات الحيوانيّة، فلا سبيل له إلى ذلك إلّا بالمجاهدة، والمقصود من المجاهدة مخالفة أوامر هذه النّفس؛ بهَدفِ إخراج الأنا وحبّ النفس والدنيا من القلب حتى تصفو وتصبح مستعدّة لاستقبال النّعم والفيوضات الإلهيّة؛ لأَنَّه كلّما تطهّر القلب من الأنا والأهواء كلّما سما وارتقى في مراتب القرب والكمال يقول الله تعالى (وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) والإنْسَان كادح إلى ربّه لا محالة شاء ذلك أم أبى، ولكنّ هذا الكدح وهذه المجاهدة تارةً تكون عن وعي واختيار كما هو الحال عند أهل الآخرة، وأُخْــرَى عن قهر وإكراه كما في حالة أهل النار والعذاب يقول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيه) فما لم يقطع الإنْسَان أغلال التعلّقات الماديّة والأهواء النفسيّة، وما لم يتحرّر من قيود عالم الطبيعة بواسطة المجاهدة والتزكية وتحمّل الكدح والتّعب، فَإنَّه لن يصل إلى منزل اللقاء المنشود، فبعد أحد عشر قسماً يحصر الله تعالى فلاح الإنْسَان بأمر واحد فقط وهو تزكية النفس وتهذيبها يقول الله تعالى (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَ) وفي آيةٍ أُخْــرَى يذكر الحقّ تعالى المجاهدة والتزكية كهدفٍ ومقصد أساسي من بعثة الأنبياء والرّسل إلى الناس يقول الله تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).