سلفيت.. مجدل شمس.. صعدة
سلفيت.. مجدل شمس.. صعدة
متابعات:
انتهت العاصفة الإعلامية التي رافقت عملية سلفيت التي نفذها الشهيد البطل عمر أبو ليلى.. وانقسمت العاصفة الإعلامية إلى موجتين؛ الأولى جاءت بعد ظهور خبر العملية وانسحاب المنفذ بسلام، واشتملت على التمجيد والتبني والتمني، إضافة إلى مجموعة من النصائح والإرشادات للشهيد وأهالي المنطقة لحمايته.. والموجة الثانية؛ جاءت بعد استشهاد عمر، إذ بدأت البكائيات والتوجع، وفي الوقت نفسه توزيع التهديدات في الاتجاهات كلها، من «صفقة القرن» وحتى أصغر جندي صهيوني، بأن النصر آتٍ، ولا يحتاج إلا إلى عشرة أو مئة من أمثال الشهيد عمر لنضمن هزيمة عدونا وتحرير فلسطين.. طبعاً مع سيل من الشتائم والتخوين لسلطة رام الله، وللحكام العرب.
ولأن زمن التواصل الاجتماعي فرض على جميع المتابعين التعامل مع الأحداث بالقطعة، فإن عملية سلفيت تبدو وكأنها حدث خارج السياق المقاوم للشعب العربي الفلسطيني، مع أن الأرقام تشير إلى حقائق معاكسة، فمنذ بداية عام 2018 وحتى يوم عملية سلفيت نفذ المقاومون الفلسطينيون 4367 عملاً مقاوماً، منها 40 عملية إطلاق نار، 33 عملية طعن أو محاولة طعن، 53 عملية زرع عبوات ناسفة، و262 عملية إلقاء قنابل حارقة، والبقية كانت أعمال إلقاء حجارة وإغلاق طرق، وتصدياً لقوات الاحتلال عند دخولها القرى والمدن الفلسطينية، إضافة إلى العمليات النوعية التي نفذها الشهداء أحمد نصر جرار، أشرف نعالوة، مجد مطير، صالح البرغوثي، وعمر أبو ليلى. وفي اليوم نفسه لاستشهاد عمر أبو ليلى نفذ الشهيدان زيد نوري ورائد حمدان عملية إطلاق نار على جنود صهاينة، لكن عطلاً في سيارتهما أدى إلى تمكّن الصهاينة من اغتيالهما. بعبارة أخرى، امتلك الشعب الفلسطيني (وما زال يمتلك) المئات من أمثال عمر أبو ليلى، فهل نحن اليوم أقرب إلى تحرير فلسطين؟
الواقع الذي نعيشه يقول: إننا لم نكن يوماً أبعد عن تحرير فلسطين مما نحن عليه اليوم. لقد عملت دوائر الصهيونية والرجعية العربية على فصل القضية الفلسطينية عن بعدها العربي، بدأ ذلك منذ مؤتمر الرباط 1974، عندما أقرَّ ذلك المؤتمر أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، القرار الذي سيجد صداه في «أوسلو» عندما تم توقيع صلح منفرد مع العدو الصهيوني، اشتمل على الاعتراف بالكيان الإسرائيلي على الجزء الأكبر من فلسطين. ما بين «مؤتمر الرباط» و«اتفاقية أوسلو» كانت مصر قد غادرت الصف العربي من خلال اتفاقيات كامب ديفيد، وغرق العراق في حرب الخليج الأولى والثانية، وأصبح تحت الحصار، والأردن يحث الخطا نحو اتفاقية وادي عربة، ولم يبق في الميدان سوى سورية التي استطاعت إحباط اتفاق 17 أيار.. دعمت سورية المقاومة اللبنانية والفلسطينية.. كانت المؤامرة عليها الخطوة الأخيرة، كما أراد أصحابها، لتمرير الصفقة النهائية لحل القضية المركزية للمنطقة التي هي قضية فلسطين.
تآمر بعض العرب، ومن ضمنهم فلسطينيون، مع الغرب ضد محور المقاومة، وفي اللحظة التي توهموا فيها أن هذا المحور أصابه الضعف، أخرجوا كل ما في جعبتهم، فالتطبيع انفلت من عقاله، وانتقل من السر إلى العلن، وأصبحت الوفود السياسية والثقافية والرياضية الإسرائيلية تجوب معظم الوطن العربي، وسمعنا وزراء خارجية عرباً يتحدثون عن «حق إسرائيل» في الدفاع عن نفسها، وشهدنا القدس تُضم إلى الكيان الصهيوني، والسفارات الأجنبية تنتقل إليها تباعاً، وترامب يطلق ذلك «الإعلان» بشأن الجولان السوري المحتل. كل هذا حدث في العلن.. وأضعافه حدث في السر، ولم يخشَ أحد من العمليات الفلسطينية، ولا من وجود عشرات، بل آلاف، من الفلسطينيين الجاهزين للتضحية في سبيل فلسطين.
يدرك كيان الاحتلال وحلفاؤه في المنطقة والخارج أن زواله لا يمكن أن يتحقق من الداخل، فمن دون مواجهة كبرى بين الجيوش العربية وجيش الاحتلال الإسرائيلي، وإلحاق الهزيمة بهذا الأخير ودخول الجيوش العربية إلى أي جزء من فلسطين، لن يتحقق النصر. من يعتقد أن شاباً مسلحاً بسكين مطبخ، أو بمدفع رشاش قادر على هزيمة كيان الاحتلال بكل قوته الغاشمة، هو في أحسن الأحوال واهم، أما إذا كان ينشد نشيد «وحدنا.. يا وحدنا» فهو قد يكون متآمراً، ليس على القضية الفلسطينية وحدها، بل على الأمة بأسرها.
لابد من التمسك بجوهر الصراع، من أنه صراع عربي– إسرائيلي، وأن كل ما يتعلق بفلسطين هو شأن كل عربي وطني، وأن فلسطين ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، تماماً كما هو الحال مع أي أرض عربية، فلا الجولان قضية سورية وحدها، ولا كردستان قضية العراق وحده ولا جنوب السودان قضية السودان وحده، كلها قضايا عربية تهدد الأمة بمجملها، ومطلوب مِن كل من يطرح نفسه مقاوماً ومناضلاً أن يتراص في صف واحد للدفاع عن كل القضايا مجتمعة، وليس بالقطعة.
نعم يخوض الفلسطينيون الصراع مع العدو ببسالة، لكن عمر أبو ليلى ومن سبقه، ومن سيلحق به، يدركون أن عملياتهم لن تقود إلى التحرير، وأنهم إذا انسحبوا بسلام فإن أجهزة السلطة جاهزة لتسليمهم، لذلك يختارون المواجهة حتى الاستشهاد.. هم ليسوا عبثيين أو انتحاريين، بل هم واعون «حد الخرافة» بأن مهمة إبقاء جذوة القضية الفلسطينية مشتعلة تقع على عاتقهم، وأن عليهم تقديم أرواحهم ليحفظوا اتجاه البوصلة نحو قضية أمتهم.
وبذلك، تتجاوز عظمتهم الاستشهاد، ففي اللحظة التي يتخذ فيها هؤلاء قرار مواجهة المحتل يتحولون إلى فكرة، وإلى إرث أمة، يترجمون على الأرض ما قاله القائد المؤسس حافظ الأسد من أننا «لسنا معنيين بكتابة نهاية التاريخ لكننا بالتأكيد معنيون بكتابة التاريخ نفسه» لكي لا يرث أبناؤنا وأحفادنا الهزيمة، لنقول لهم: إننا أمة لم تستسلم حتى في أحلك ظروفها، مثلما انتصب يحيى الشغري، وحامية مستشفى الكندي، ومثلما يقف اليمني في مواجهة العدوان في صنعاء وصعدة. كل هؤلاء قدموا أرواحهم لتبقى الفكرة، استشهد أشرف نعالوة وعمر أبو ليلى وأحمد جرار وآلاف غيرهم في القدس ونابلس والغوطة وحلب والحديدة ودير الزور.. هم لا يعرفون بعضهم بالتأكيد، ولعلهم لا يعرفون صدقي المقت، أو صالح الصمّاد، وولدوا بعد أن أحرق أهل الجولان السوري المحتل الهوية الإسرائيلية في هبتهم بعد قرار الكيان الصهيوني ضم الجولان المحتل عام 1982.. ما يجمعهم أنهم جميعاً جنودٌ في جيش الأمة العربية.
عماد خالد الحطبة – كاتب من الأردن