في وقت يترقب الجنوبيون انطلاق «القناة الفضائية الجنوبية» التي بقيت قيادات بـ«المجلس الانتقالي الجنوبي» تردد الأحاديث عن قرب خروجها إلى النور من عدن، تفاجأ الجميع بإطلاق «التحالف» قناة فضائية خاصة بمحافظة المهرة الجنوبية. يأتي هذا في زمن التضييق الإعلامي الخانق، حيث ليس للجنوب صوتاً يتحدث باسمه، وهو الذي كان قبل هذه الحرب، وبالذات قواه الحية التي تتبنى المشروع التحرري، كان يمتلك قناة فضائية يتيمة بإمكانيات متواضعة هي «عدن لايف».

اليوم لم يعد الجنوب يمتلك قناة فضائية، بل حتى أنه لا يمتلك إذاعة بتردد الـ« FM»، أو حتى صحيفة ورقية تحوز الحضور الشعبي والتأثير السياسي، من شأنها أن تتبنى قضيته السياسية؛ بل حتى أن الجنوب لا يمتلك موقعاً إلكترونياً فاعلاً، برغم أن هذا الجنوب صار متسلحاً بنصرٍ عسكري، أو هكذا نعتقد.

افتقار الجنوب لوسائل إعلامية ليس مرتبطاً بعجز مالي أو مهني ولا فني، ففي الجنوب الملايين من الدولارات والريالات السعودية، فيما الدراهم الإماراتية تصرف بسخاء يصل إلى درجة السُفه، وبالبذخ على أشخاص وجهات محسوبة زوراً وزيفاً على القضية الجنوبية، بل وتُصرف معظم هذه المبالغ لتمزيق ما تبقى من نسيج شعبي وعروة وطنية.

الجنوب والأنياب الإعلامية

وفي الجنوب كوادر إعلامية وصحافية متمكنة تقدر بالمئات -إن لم نقل بالآلاف- وبالتالي فقد بات واضحاً أن هدف إبقاء الجنوب من دون لسان إعلامي يعبر عن قضيته ويطل على العالم من خلاله، ما هو إلا قراراً سياسياً إقليمياً بامتياز، وهو قرار من شأنه أن يُبقي على الجنوب بحالة تخبط عشوائي بالظلام، يكون فيها منزوع الأنياب الإعلامية والأظافر الصحافية.

يحدث كل ذلك وسط غابة كثيفة من وسائل الـ«ميديا» بكل أشكالها وأصنافها، أما الغرض فيتمثل بتغييب الخطاب السياسي والإعلامي الجنوبي على الساحة المحلية والدولية في هذه المرحلة المفصلية بالذات، ليتمكن «التحالف» والقوى اليمنية الشمالية من تمرير مشاريعهم السياسية، وأطماعهم الإقتصادية والتوسعية بالجنوب بسهولة.

وبالتوازي مع تفكيك الجغرافيا الجنوبية الى فسيفساء وكنتونات متنافرة، وتمزيق ما بقي من تمساك جنوبي بشكل سلس وناعم من المهرة شرقاً الى باب المندب جنوباً، فإنه سيتسنى للرياض وأبو ظبي السيطرة والإجهاز على الجنوب أرضاً وثروة وتاريخ وجغرافيا وإنساناً.

من محافظة المهرة التي ترسخ فيها السعودية والإمارات أقدامها العسكرية والإقتصادية، وتتطلعان إلى جعلها مستعمرة خليجية للإطلالة عبرها على بحر العرب والمحيط الهندي وأسواق النفط العالمية، تم تدشين هذا التفكيك وهذه التجزئة، فالزيارات المتتالية التي يقوم بها السفير السعودي محمد آل جابر إلى المهرة، التي لا علاقة لها بالحرب، يفوق عددها بعشرات المرات عدد الزيارات التي يقوم بها مسؤولون محليون، سواء أكانوا من الجنوبيين أو من حكومة «الشرعية».

«بريمر« بنسخته السعودية

إزاء ذلك، صار السفير السعودي يتصرف كمندوب سامي بشكل صريح ومكشوف ونسخة «بريمرية» سمجة، تارة يطل من النافذة الإنسانية وتارة أخرى من بوابة الزعم الساذج بـ«محاربة تهريب الأسلحة عبر سلطان عُــمان»، وما كاد لهذا الزعم أن يختفي حتى استعيض عنه بأكذوبة طريفة، قوامها «إعادة التعمير» بمحافظة لم تطلق فيها رصاصة واحدة طيلة هذه الحرب.

إن تدشين «القناة الفضائية» المهرية قُصد به أكثر من غرض، أهمها: «مجابهة الرفض الشعبي المهري للتواجد العسكري، والأطماع الخليجية التوسعية بالمحافظة، وزرع النزعة الإنعزالية العدائية عند السكان المحليين تجاه محيطهم الجنوبي»، ليسهل بالتالي الإستفراد بالجنوب وتجزئته المحافظة تلو الأخرى، وسنرى هذا السلوك الخليجي في كل محافظات الجنوب…

على سبيل المثال، لم تكد تمر ساعات فقط من الإعلان عن انطلاق هذه القناة المهرية، حتى طار السفير السعودي «المندوب السامي» من المهرة الى حضرموت لذات الغرض، أي لعزل حضرموت عن محيطها الجنوبي، كما أن التسريبات التي تحدثت عن نية السعودية بضم ما يسمى بإقليم حضرموت مستقبلاً إلى عضوية «مجلس التعاون الخليجي»، إنما تندرج في هذا الإطار.

وبعد أيام فقط من عزل محافظ شبوة واستبداله بمحافظ مقرب من حزب «الإصلاح» المدعوم سعودياً، تصاعدت وتيرة الأخبار عن تغيير مرتقب لمحافظ حضرموت بذات السيناريو ولذات النوايا، لتلحق حضرموت بالمهرة، وشبوة، وعدن، وسقطرى، وقد سقطت جميعها من يد القوى الجنوبية التحررية بيد المشاريع السعودية و«الشرعية»، أو بالأحرى بيد حزب «الإصلاح».

 

    باسم «الشرعية» يتم تسمين «الإصلاح» بشتى أنواع الأسلحة الثقيلة

 

 

يأتي كل ذلك في وقت يعزز الحزب، وبدعم سعودي مكثف وتحت غبار خليجي زائف اسمه محاربة حركة «الإخوان المسلمين»، من تواجده في مفاصل «الشرعية»، ويتم تسمينه خليجياً بشتى أنواع الأسلحة الثقيلة باسم السلطة «الشرعية»؛ فيما يقوم «التحالف»، والإمارات خصيصاً، بتعزيز حضور «المؤتمر الشعبي العام» بالسلطة وبالحكومة المؤيدة له لإعادة تأهليه بالساحة اليمنية، لتكتمل بذلك عملية إعادة تركيب أضلاع مثلث قوى حرب 94م على الجنوب: «الإصلاح- المؤتمر- هادي»؛ ليستغل «التحالف» حالة التخاذل والإنبطاح الذي يعتري قطاعاً واسعاً من النخبة الجنوبية الأنانية.

ومع ذلك، وبرغم أن للمال عروشاً لا تسقط بسهولة كما يُقال، والمؤامرات تحدِقُ من الجهات الأربع على مستقبل الجنوب وقضيته الوطنية السياسية العادلة، سيظل الرهان الجنوبي بالتصدي لهذا الإستهداف وهذه المؤامرات معقوداً على الوعي الجماهيري المتجذر بالعقل الجنوبي، وعلى ما بقي من ضمير وطني بأوساط النخبة الثورية الجنوبية، التي لم تمسها شياطين المال  الإقليمي وعفاريت الإعلام المحلي بعد.