عن الأمير والعهد والمرحلة التأسيسية
متابعات | كتابات | هاشم أحمد شرف الدين
في النصائح المقدمة للحكام ثمة مدرستان شهيرتان كل منهما على النقيض من الأخرى، وسيكون على هذه المقالة توضيحهما باختصار.
لقد وضع الكاتب الشهير مكيافيللي عبر كتابه الشهير ” الأمير” مجموعة من قواعد فن الحكم والسياسة، وقدمها للأمير الجديد على هيئة نصائح، نصحه بالتزامها حتى يدوم سلطانه ويرسخ حكمه وتتوطد أركان عرشه، وهي نصائح كلها قامت على الفصل التام بين السياسة والأخلاق، إذ نصحه مكيافيللي ألا يعبأ بالفضائل بل وأن يلجأ إلى الرذائل إن كان ذلك يحقق مصلحته، فلا يجب على الأمير أن يكون كريما، لأن الكرم يؤدي إلى الفقر، وهو إن افتقر سيخسر هيبته لدى رعاياه، وعليه أن لا يكون طيبا لأن ذلك يثير روح الثورة عليه في نفوس رعاياه، أما القسوة فتقيم النظام وتمنع الفوضى وتحقق الوحدة وتقضي على الفتنة وهي في المهد، كما أن رضا الرعايا متغير فلا يعتمد في استمرار حكمه على رضاهم، بل يعتمد على قوته فهي إن دامت سيدوم حكمه.
المدرسة الأخرى وضعها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في وصاياه إلى مالك الأشتر بن الحارث النخعي حين ولاه الإمام واليا على مصر عام 38 هجرية والتي عرفت بعهد الأشتر.
اعتبر هذا العهد من أهم الوثائق السياسية التي تعالج قضايا الحكم والإدارة وشؤون الدولة وعلاقتها مع الأمة، والحقوق والواجبات المترتبة على الحاكم تجاه الأمة، وواجبات الأمة تجاه الحاكم.
فقد تضمنت نصوص العهد تعاليم واضحة ومحددة حول دور الحاكم وعلاقته بالرعية وكيفية إقامة العدالة، وعدم الظلم، ودور القضاء.
وقد تضمن العهد حوالي أربعين فقرة تناولت الموضوعات التالية: السيرة الحسنة، العلاقة مع الرعية، عدم التكبر، الإنصاف، العدل، الوشاة، الاستشارة، دور الوزراء وصفاتهم، الإحسان، السنة، دور العلماء، العلاقة بين طبقات المجتمع، دور قادة الجيوش والعلاقة بهم، اختيار القضاة، الشبهات، اختيار العمال والولاة، خيانة العمال، الخراج ومالية الدولة، الكتاب وأصحاب الديوان، فنون الكتاب، التجار والاحتكار، الاهتمام بالفقراء، أصحاب الحاجات والمصالح، واجبات الحاكم، أداء الفرائض، عدم الاحتجاب عن الناس، دور الحاشية، الاستفادة من الإعلام، العلاقة بالأعداء والعهود، وصفات خاصة.
سمم الأشتر قبل أن يصل مصر، وقتل الإمام علي بعد إشغاله بأكثر من معركة، لكن رؤاه لم تنته أو تموت، ولعله من المناسب هنا أن نذكر بأنه حين أطلع الأمين العام للأُمم المتحدة الأسبق كوفي عنان على العهد وتحديدا العبارة الآتية: “وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق”، قال كوفي: “إنّ هذه العبارة من العهد يجب أن تعلّق على كلّ المؤسسات الحقوقية في العالم”.
ومع الفارق الواضح بين المدرستين إلا أن الناس لم يتحدوا على صوابية إحداهما، فهناك من الحكام من فضل مدرسة مكيافيللي وهناك من فضل مدرسة الإمام علي، وترتب على ذلك الكثير من الأحداث والعبر، إلا أنه يمكن للقارئ الآن أن يميز بسهولة إلى أي من المدرستين ينتمي الحكام الذين عاصرهم أو الأنظمة التي عايشها أو عرف عنها، ومدى تجاوب كل منهم مع النصائح المقدمة لهم من أتباع المدرستين.
يأخذني القلم للإشارة بأنه تحل علينا الأحد القادم الذكرى السنوية الرابعة لاستشهاد البروفيسور أحمد شرف الدين الذي اتحد الناس بمختلف مشاربهم على كونه ذا بصيرة وأفق وطني واسع وجامع من خلال إسهاماته البارزة في التحضير لمؤتمر الحوار الوطني وخلاله، لكنهم لم يتحدوا حول آخر أطروحاته التي عرفت ب”المرحلة التأسيسية”،
والتي قدمت الحل للقضايا الشائكة والأكثر تعقيدا، لا سيما تلك المتعلقة بمرحلة ما بعد الحوار، وتضمنت رؤية علمية متوازنة، رسمت صورة مستقبلية ضمن مخرجات مؤتمر الحوار، تحول دون انزلاق اليمن إلى صراعات سياسية جديدة، وتوفر ضمانات حقيقية لتنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني وتوفر الاطمئنان إلى سلامة هذا التنفيذ، وتوفر فرصا جيدة لإجراء مصالحة وطنية شاملة، وتحقق مضمون المشاركة السياسية، وتؤسس لتعايش سلمي وقبول بالآخر.
لم يتحد المتحاورون على تلك الرؤية، ووصل الأمر إلى تصفية صاحبها الذي نشد الخير لجميع أبناء الشعب باليد ذاتها التي تطاولت لتقتل الشعب اليمني منذ ما يزيد عن الألف يوم، لكن الأكيد أن رؤاه الوطنية ستبقى حية في وجدان كل اليمنيين طوال الزمن بإذن الله تعالى، باعتبارها وضعت أسساً واضحة لإدارة الحكم الرشيد الذي ينشده اليمنيون.