كل ما يجري من حولك

«الجارديان»: الدكتوراه مقابل التجسس.. كيف جندت «سي آي إيه» أكاديميين وعلماء؟

421

متابعات| شفقنا:

تتعدد الأنشطة السرية لـ«وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)»، وبالرغم من ذلك، فلا يُعرف منها إلا النذر  اليسير. ويأتي من ضمن هذه الأنشطة، تجنيد علماء وأكاديميين لحساب الولايات المتحدة، الأمر الذي تناولته صحيفة «الجارديان» البريطانية في تقرير مفصل نُشر في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي للصحافي دانيل جولدن.

يبدأ التقرير بسرد بعض التفاصيل الخاصة بمحاولة تجنيد حدثت منذ عقد مضى، عندما حاول أحد عملاء الاستخبارات الأمريكية، إقناع عالِم نووي إيراني بالانشقاق أثناء حضوره مؤتمر علمي. وبدأت القصة بزيارة العميل الاستخباراتي غرفة العالِم في الفندق الذي يقيم فيه، بعد أن أظهرت المراقبة السمعية والمرئية نوم مرافقيه من الحرس الثوري، وطرق باب الغرفة برفق؛ ليفتح له العالِم الذي لم يكن قد نام بعد.

وبحسب التفاصيل التي سردها مصدر مطلع لـصحيفة «الجارديان»، فإن الوكالة كانت قد  أعدت لهذا المؤتمر ومولته من خلال إحدى واجهاتها التجارية، وأقامته في مركز بحث علمي خارج البلاد، ودعت ضيوفًا ومتحدثين، ثم زرعت عملاءها بين العاملين في المطابخ وأطقم الخدمات الأخرى؛ من أجل اصطياد الخبير النووي الإيراني واستدراجه لدقائق قليلة – بعيدًا عن حراسه – من أجل تقديم عرضهم له وجهًا لوجه. تلك الخطة التي كادت تفسد بعد مفاجأة غير متوقعة: عندما قرر العالِم تغيير الفندق الذي رشحه له المؤتمر؛ لأن كلفته كانت أعلى من الميزانية التي خصصها رؤساؤه في إيران.

ومن أجل إظهار حُسن النية، ألقى العميل  الاستخباراتي التحية بالفارسية على الخبير النووي، قائلًا: «سلام حبيبي»، قبل أن يُكمل: «أنا من (سي آي إيه) وأريدك أن تستقل الطائرة معي نحو الولايات المتحدة». ارتسمت علامات الصدمة والخوف والفضول على وجه الإيراني، وكان العميل يعرف من تجاربه السابقة آلاف الأسئلة التي قد تدور في رأسه، مثل: ماذا عن عائلتي؟ كيف ستحمونني؟ أين سأعيش؟ كيف سأعيش؟ كيف سأحصل على الفيزا؟ هل هناك وقت لأحزم أمتعتي؟ ماذا سيحدث إن قلت لا؟ وعندما هم الخبير النووري بطرح أحد هذه الأسئلة، قاطعه العميل قائلًا: «أولًا، أحضر سطل الثلج هذا»، وعندما سأله الإيراني عن السبب، أجاب: «كي تخبر الحراس بأنك ستجلب الثلج، إن أفاق أحدهم».

 

 

جواسيس المؤتمرات العلمية

في «أحد أجرأ وأدق عملياتها داخل المجتمع الأكاديمي»؛ أنفقت وكالة «سي آي إيه» ملايين الدولارات سرًا من أجل إعداد مؤتمرات علمية في جميع أنحاء العالم، كان الهدف منها استدراج العلماء الإيرانيين إلى الخارج، حيث مكان تحت السيطرة، يستطيع عملاؤها الاستخباراتيون الوصول إليهم فيه؛ ليضغطوا عليهم حتى ينشقوا. واستغلت الوكالة  التعاون الدولي في المجال الأكاديمي، وقامت بتضليل المؤسسات التي استضافت هذه المؤتمرات، والعلماء الحاضرين؛ من أجل تعطيل تطور البرنامج النووي الإيراني؛ إذ لم يكن هؤلاء العلماء على علم بأنهم جزء من مسلسل يحاكي الواقع، أَعد له آخرون. وسواء كان الأمن القومي الأمريكي سببًا كافيًا لتضليل هؤلاء العلماء أم لا، فإن أغلب هؤلاء العلماء ما كانوا ليقبلوا – على الأرجح – بأن يكونوا جزءًا من خطة «سي آي إيه» المضللة.

وبحسب كاتب التقرير، فإن المؤتمرات العلمية مهيأة للأعمال الجاسوسية أكثر من أية ساحة أكاديمية أخرى، خاصة بعد انتشارها في كل مكان بسبب العولمة. ولأنها تقام كلما كانت الظروف مناسبة، وتجذب جمعًا نخبويًا، وتستعيض عن الجوائز بالمكانة المرموقة التي تمنحها؛ إذ لا تغني محادثات العلماء الإلكترونية عن مقابلة زملائهم، والتعارف الوظيفي، ومعرفة أحدث الأدوات، وعرض أبحاثهم التي تُجمع في النهاية ضمن نتائج المؤتمر.

فجاذبية المؤتمرات تكمن في أنها: «طريقة لجعل العمل لعبًا، ودمج المهنية مع السياحة، وكل ذلك على نفقة غيرهم»، كما يصفها الروائي الإنجليزي ديفيد لودج في روايته «عالم صغير»، التي تحاكي رواية «1984» بالنسبة للمجتمع الأكاديمي.

لا تقاس أهمية المؤتمر بعدد حائزي نوبل أو عمداء أكسفورد الذين اجتذبهم فقط، بل بعدد الجواسيس أيضًا؛ إذ تعد المؤتمرات أرضًا خصبة للتجنيد، فمثلما تستهدف الجيوش المناطق الفقيرة بحثًا عن المجندين، ينتشر ضباط الاستخبارات الأمريكية والغربية في المؤتمرات العلمية، فقد تضم الجامعة الواحدة أستاذًا أو اثنين لتجنيدهم، لكن مؤتمرًا عن الطائرات الآلية أو عن «داعش»، يضم العشرات منهم.

يقول أحد رجال وكالة «سي آي إيه»، لـصحيفة «الجارديان»: «إن كل الوكالات الاستخباراتية في العالم تقيم مؤتمرات وترعاها، وتبحث عن طرق تجلب الناس إليها». بينما يقول مارك جالوتي أحد كبار الباحثين بمعهد العلاقات الدولية في براج: إن «التجنيد هو عملية مطولة من الإغراء.. المرحلة الأولى هي الترتيب لتكون في ورشة عمل مشتركة مع المستهدف؛ حتى إن تبادلتم حديثًا مصغرًا، فيمكنك أن تسأله في المرة التي تليها: هل قابلتك في إسطنبول؟»

وجدير بالذكر، أن مكتب التحقيقات الفيدرالي «إف بي آي»، نبّه الأكاديميين الأمريكيين في 2011 أن يحذروا المؤتمرات، وذكروا سيناريو يقول: «تتلقى الباحثة دعوة لم تسع إليها من مؤتمر دولي لتقديم ورقة بحثية، فتقدمها ويقبلها المؤتمر. وفي المؤتمر، يطلب منها المضيف نسخة من بحثها، ثم يوصل ذاكرة فلاش بحاسبها المحمول ليحصل على كل الملفات والبيانات الموجودة به دون علمها».

على الجانب الآخر، ينتشر أيضًا عملاء «إف بي آي» و«سي آي إيه» في المؤتمرات العلمية، إذ يقول أحد العملاء السابقين في «إف بي آي» عن اللقاءات التي تقام في الولايات المتحدة: «يحاول ضباط المخابرات الأجانب تجنيد الأمريكيين، ونحاول نحن تجنيد مواطنيهم». أما «سي آي إيه»، فتستغل المؤتمرات بأكثر من طريقة، تبعث ضباطها لها، وتستضيفها عن طريق شركات وهمية في واشنطن، كي يتمكن المجتمع الاستخباراتي من الاستفادة من الحكمة الأكاديمية، وتنظم مؤتمرات وهمية حتى تصل إلى من يحتمل انشقاقهم عن الأنظمة المعادية للولايات المتحدة.

ويضيف التقرير أن «سي آي إيه» تراقب المؤتمرات العالمية التي تقام حول العالم أيضًا، وتحدد من قد يكون ذا فائدة لها، فإن أقيم مؤتمر دولي في باكستان حول تقنيات الطرد المركزي، سترسل الوكالة عميلها المتخفي، أو تجند أستاذًا جامعيًا كان سيذهب بالفعل ليعلمها بما فيه، فإن عرفت أن عالمًا نوويًا إيرانيًا قد حضر المؤتمر، فقد تضعه ضمن احتمالات التجنيد في مؤتمر العام التالي.

وبحسب الصحيفة، فمن الممكن أن تؤثر المعلومات المستمدة من المؤتمرات العلمية على سياسة الدولة؛ إذ سبق وأن ساهمت تلك المعلومات من قبل في إقناع جورج بوش وإدارته بأن صدام حسين ما زال يطور أسلحة دمار شامل في العراق، الأمر الذي اتضح فيما بعد أنه غير صحيح. ويقول ضابط «سي آي إيه» السابق، جون كرياكو، في مذكراته المنشورة عام 2009: «لاحظ عملاؤنا ومخبرونا تواجد العلماء العراقيين الذين يتخصصون في الكيمياء والأحياء في المؤتمرات الدولية، بينما تواجد علماء النووي بشكل أقل. قدموا الأبحاث، واستمعوا لما قدمه الآخرون، ودونوا ملاحظاتهم بكثرة، ثم عادوا بعدها للأردن حيث يمكنهم العودة إلى العراق برًا».

ويقول التقرير: إنه «من الممكن أن يكون بعض هؤلاء الجواسيس قد استخلصوا استنتاجات خاطئة، بسبب عدم حصولهم على درجات علمية في الكيمياء أو الأحياء أو الطاقة النووية، فبدون هذه الخبرة، قد يكونون أساءوا فهم المواد المطروحة، أو أن تخفيهم قد كُشف».

ووفقًا لحديث جين كويل، الذي عمل في «سي آي إيه» منذ عام 1976 حتى 2006، فإن ساحات مؤتمرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا، تعج بضباط مخابرات قد يفوق عددهم العلماء الحقيقين، ويضيف كويل: «هناك مشكلة واحدة، إن كنت سترسل أحد رجال «سي آي إيه» إلى مؤتمر كهذا، فعليه أن يتحدث نفس حديثهم، فلا يمكن مثلًا أن ترسل متخصصًا في التاريخ. ربما يقول أحدهم إنه يحوز دكتوراه في فيزياء البلازما، لكن في عالم صغير كهذا إن قلت أنك من معهد «فرمي» في شيكاجو، فقد يسألك أحدهم إن كنت تعرف بوب أو فريد أو سوزي».

وبدلًا عن ذلك يجب على الوكالة أن تجند أساتذة مناسبين من خلال قسم الموارد القومية فيها، بحسب ما يقترح كويل. إذ يعد ذلك القسم الجانب المحلي من عملها السري، ويرتبط بعلاقة عمل مع العديد من العلماء. ويضيف كويل: «إن علموا بمؤتمر في فيينا، فقد يخبروا الأستاذ الجامعي سميث بأن حضوره سيبدو طبيعيًا. ليرد عليهم بأنه سيحضر بالفعل، وسيعلمهم بمن تحدث معه، وإن قابل إيرانيًا فلن يذهب بعيدًا عنه». أما إن قال إنه يرغب بالحضور، لكن جامعته لا تستطيع تحمل تكلفة سفره، فقد تفترح الوكالة توفير تذكرة من الفئة الاقتصادية.

 

خطة العميل «آر»

يشرح أحد رجال «سي آي إيه» السابقين – الذي أشار له كاتب الصحيفة باسم «آر» – طريقة تجنيد العلماء، فيقول «آر» إن التودد يبدأ بما يبدو أنه لقاء بالصدفة في مؤتمر أكاديمي، ويضيف: «جندت الكثير من الناس في المؤتمرات. كنت جيدًا، ولم يكن الأمر صعبًا». إذ كان يتفحص قائمة المؤتمرات القادمة، في حين عدم تكليفه بمهمة ما، يختار من بينها مؤتمرًا ويحدد عالمًا، قد يستفيدون منه، يكون من المحتمل حضوره، وسبق أن التقوا مرتين على الأقل خلال النسخ السابقة من المؤتمر. ليقوم «آر» بتكليف المتدربين في وكالتي الأمن القومي (NCA) و«سي آي إيه»، بإنشاء ملف تعريفي للمستهدف، يشمل الجامعة التي تخرج فيها، وأساتذته السابقين، إلى آخره من المعلومات المشابهة.

يراسل «آر» بعد ذلك المكتب الرئيس لوكالة الاستخبارات ليطلب نقود من أجل السفر، ويحرص أن يكون كلامه مقنعًا بما يكفي لتمنحه الوكالة النقود، لكنه يحرص أيضًا ألا يثير حماس العملاء الآخرين القريبين من مكان انعقاد المؤتمر، كي لا يحاولوا مطاردة نفس المستهدف بعد الاطلاع على الرسالة. ويعمل بعدها على طريقة التخفي، والتي تكون عادة في هيئة رجل أعمال؛ اخترع اسم شركة، واشترى لها موقعًا من بين المواقع الجاهزة، وطبع بطاقات الأعمال الخاصة به، ثم أنشأ سجلات وهمية بالفواتير وأرقام الهواتف والبطاقات الائتمانية للشركة الوهمية. أما الاسم، فاختار اسمًا من إحدى الهويات السبعة التي يتخفى بها.

يضيف الكاتب أن «آر» لم يكن عالمًا، لذا لم يكن في مقدوره بدء الكلام مع أحد الأساتذة الجامعيين بالحديث عن فرضية ريمان مثلًا، لكن طريقته كانت تعتمد على انطوائية أغلب العلماء وسلوكهم الاجتماعي الغريب؛ إذ يتتبع المستهدف حتى يبتعد إلى أطراف القاعة التي تجمع الحضور للتعارف، ثم يسأله: «هل تكره الجموع مثلي؟» ويبتعد بعدها. يقول «آر» إن هذا اللقاء يجب أن يكون عابرًا، «أنت فقط تخزن وجهك في عقله»، ويجب ألا يلحظه الآخرون؛ إذ يعد من أخطاء المبتدئين، أن يتواصلوا مع المستهدف أمام الآخرين، الذين قد يكون من بينهم مراقبين أرسلتهم حكومته.

سيبلغ المراقبون الدولة عن هذه المحادثة؛ مما يعرض المستهدف للخطر، ويجعله لا يرغب، أو لا يستطيع التفكير في أي عروض فيما بعد. في باقي برامج المؤتمر، يتجول «آر» ليلتقي صدفة بالأستاذ الجامعي في كل فرصة ممكنة، وفي كل مرة يتسلل إلى وجدانه أكثر. مثال على ذلك أن يخبره بأنه قرأ مقالًا رائعًا عن موضوع ما، لكنه لا يتذكر كاتبه، ليخبره الأستاذ – في خجل – بأنه هو من كتبه.

 

 

بعد عدة أيام، يدعو «آر» العالم لتناول وجبة الغداء أو العشاء معه ليقدم له عرضًا، وهو أن شركته مهتمة بمجال العالم، وتود دعم عمله. يقول «آر»: «كل الأكاديميين الذين التقيتهم يبحثون باستمرار عن طريقة للحصول على منحة لإكمال أبحاثهم، هذا محور أحاديثهم». يتفقون بعد ذلك على المشروع وتكلفته، وتختلف بحسب بلد العالِم، «من ألف حتى 5 آلاف للباكستاني، بينما الكوري يحصل على أكثر من ذلك»، بحسب قوله. وبمجرد ما أن تدفع الوكالة المال للعالِم الأجنبي يصبح تحت سيطرتها، حتى إن لم يكن يعلم بمصدر الأموال؛ لأن فضح هذه العلاقة في بلده الأصلي قد يكلفه حياته المهنية أو حياته كلها.

 

أصبحت المؤتمرات العلمية تجذب عملاء الاستخبارات إلى درجة أن أحد مخاوف وكالة الاستخبارات المركزية هي أن يتداخل عمل زميلين في الوكالة ليطاردا نفس الفريسة. ويقول أحد الضباط السابقين بالوكالة: «عادة ما ننتشر في الأحداث المماثلة كالفيضان»، وورد حديثه هذا في كتاب «العامل الإنساني: ثقافة التجسس المختلة للاستخبارات المركزية من الداخل»، الذي نشره تحت اسم مستعار هو إشمايل جونز عام 2008.

 

في أحد المؤتمرات التي أقيمت في باريس عام 2005، والذي توقع جونز أن يكون «تجمعًا مثاليًا للعلماء الزائرين من الدول العدائية»، أصيب بالإحباط عندما لمح اثنين من عملاء «سي آي إيه» في نفس الغرفة، وكانا ينتحلان صفة أستاذين جامعيين مثل الباقين، وتحاشى أن يروه وهو يتجول في المكان، راصدًا الأسماء بحثًا عن «مصادر جيدة»؛ والتي يقصد بها العلماء الآتين من كوريا الشمالية أو إيران أو ليبيا أو روسيا أو الصين.

 

وفي أثناء أحد المؤتمرات الخاصة بالمواجهات الإلكترونية في جامعة جورج تاون التقى الكاتب برئيس قسم سياسة الأمن الإلكتروني في الخارجية الألمانية، كارستن جاير، وفي أثناء حديثهما أخبره جاير أنه «متفاجئ من الحضور الاستخباراتي المعلن في هذه المؤتمرات»، وأن هناك أشخاصًا من أجهزة عديدة يتجولون في المكان. فيما تحدث مديرا وكالة الأمن القومي ومكتب التحقيقات الفيدرالي حول نقاط هامة في المؤتمر الذي يتناول مكافحة الهجمات الإلكترونية، التي تعد أحد أصعب التحديات في القرن الحادي والعشرين بحسب وصف الكاتب.

 

وتحدث فيه أيضًا أحد أبرز كاسري الشفرات السابقين في وكالة الأمن القومي، والرئيس السابق لمجلس الاستخبارات القومي الأمريكي، ونائب وزير الداخلية الإيطالي، ومدير مركز للأبحاث السرية يعمل مع المخابرات السويدية. وبحسب ملصقات التعريف التي يضعها الحاضرون البالغ عددهم 700، فإن أغلبهم إما يتبع حكومة الولايات المتحدة أو سفارات أجنبية أو شركات ومقاولين يعملون في المجال، أو أنهم أساتذة جامعات.

 

يضيف الكاتب أنه على الأرجح لم يكن كل الحضور الاستخباراتي معلنًا، فرسميًا، تواجدت 40 دولة في المؤتمر، من البرازيل إلى صربيا، وحتى سريلانكا، لكن روسيا لم تكن حاضرة رسميا، وعلى الرغم من ذلك يقول الكاتب إنه قابل شابًا نحيلًا يقف في شرفة المبنى، حاملًا في يده حقيبة مستندات، ويستمع إلى نقاشات المؤتمر، وعندما اقترب منه وعرف نفسه، ثم سأله عن اسمه، رد الشاب: «ألكسندر»، ثم أضاف بعض أن صمت لوهلة: «بلوسوف». وعندما سأله الكاتب؛ إن كان المؤتمر يعجبه؟ رد الشاب بالنفي، في محاولة لمنع طرح مزيد من الأسئلة، ثم أضاف: «أنا من السفارة الروسية، ليس لي أي آراء، أنا فقط أحب المعرفة، هذا كل ما في الأمر». فأعطاه الكاتب بطاقة عمل، وطلب بطاقته، فأجاب الشاب بأنه جاء لشهر واحد، وما زالت بطاقاته لم تصدر. وعندما ألح الكاتب، وسأله عن وظيفته في السفارة، نظر الشاب في ساعته وقال «آسف، يجب أن أرحل».

 

أستاذ جامعي وعميل لـ«سي آي إيه»

ينتقل كاتب التقرير للحديث عن الأستاذ الجامعي جون بوث، الذي تستخدمه «سي آي إيه» أحيانًا للحديث في أحد المؤتمرات، في حين أن اسم الوكالة لا يظهر في أي من الدعوات أو جدول الأعمال، ويبرز فقط اسم شركة في واشنطن على أنها ترعى المؤتمر. إذ تسهل الوكالة على الباحثين مشاركة آرائهم بإخفاء دورها، وتنسب لهم تلك الأعمال في سيرهم الذاتية دون الإفصاح عن تعاونهم مع الاستخبارات المركزية، وهو ما قد يقصيهم عن بعض زملائهم الأكاديميين أو الدول التي يجرون أبحاثهم فيها.

 

يلقي الباحثون كلماتهم وتتبعها الأسئلة، فتشبه الجلسات أي لقاء أكاديمي، لكن هناك استثناء واحد، وهو أن العديد من الحاضرين يضعون ملصقات تعريفية باسمهم الأول فقط، وهم على الأرجح محللو الاستخبارات المركزية.

 

يعمل بوث أستاذًا للعلوم السياسية في جامعة شمال تكساس، ويتخصص في دراسة أمريكا اللاتينية؛ حيث المنطقة التي علّم التاريخ مسؤوليها الحذر من «سي آي إيه». ويقول بوث في حديث سابق مع كاتب التقرير: «إن كنت تنوي العودة إلى أمريكا اللاتينية، فيجب ألا يظهر في سيرتك الذاتية هذا النوع من الأطروحات. عندما تذهب لإحدى تلك المؤتمرات، فإنه لن يظهر في سيرتك الذاتية وجود مسؤولين استخبارتيين أو عسكريين فيها. يرفع هذا الحرج عن المشاركين، إذ إن هناك بعض التحيز ضد هذا الأمر في المجتمع الأكاديمي. عندما أذهب للقاءات حول دراسات أمريكا اللاتينية، لا أقول إنني كنت في مؤتمر أقامته الاستخبارات المركزية».

 

وبحسب التقرير، فإن وكالة الاستخبارات المركزية تنسق مؤتمرات حول قضايا السياسة الخارجية ليتعلم محللوها، الذين ينغمسون في تفاصيل سرية أغلب الوقت أكثر من الباحثين الذين يرون الصورة الأكبر، والذين يعرفون المصادر المتاحة للعامة. ويُدفع للباحثين المشاركين ألف دولار على سبيل المكافأة، بالإضافة إلى النفقات، ويُلقي الباحثون كلماتهم وتتبعها الأسئلة، فتشبه الجلسات أي لقاء أكاديمي، لكن هناك استثناء واحد، وهو أن العديد من الحاضرين يضعون ملصقات تعريفية باسمهم الأول فقط، وهم على الأرجح محللو «سي آي إيه».

 

ومن بين 10 مؤتمرات حضرها بوث على مر السنين، كان آخرها لقاء عام 2015 حول موجة لجوء الأطفال من أمريكا الوسطى للولايات المتحدة؛ لم ترتب «سي آي إيه»، أو مكتب مدير وكالة الاستخبارات القومية، سوى مؤتمر أو اثنين بشكل مباشر. أما باقي المؤتمرات فنسقتها شركة «سنترا تكنولوجي»، رائدة صناعة الوساطة المتنامية في منطقة واشنطن، والتي تدير مؤتمرات «سي آي إيه». إذ توفر لها الوكالة التمويل وقائمة المدعوين، الذين يجتمعون لاحقًا في مركز مؤتمرات «سنترا» في مدينة آرلينجتون في ولاية فيرجينيا. وبحسب موقعهم، فهو «مثالي لمؤتمرات عملائنا، والاجتماعات، والألعاب، والأنشطة الجمعية».

 

أستاذ السياسة الدولية في جامعة كولومبيا روبرت جرفيس، والذي سبق أن عمل مستشارًا لدى «سي آي إيه» لوقت طويل، يقول للكاتب: «حتى إن لم تكن تعلم سوى القليل، فإنك عندما ترى «سنترا» تعرف أنه على الأغلب مؤتمر للاستخبارات المركزية أو الاستخبارات القومية. إنهم يشعرون فقط أن ستر بعض الأكاديميين أمر مفيد».

 

تلقت «سنترا» -التي تأسست عام 1997- أكثر من 200 مليون دولار مقابل عقود حكومية، منها 40 مليون من الاستخبارات المركزية لقاء الدعم الإداري، مثل تجميع وتحرير البرقيات والمستندات السرية من أجل دراسة لجنة الاستخبارات في الكونجرس حول برنامج التعذيب في الوكالة، وفي 2015، تعاون كبار المديرين فيها مع مسؤولين استخباراتيين سابقين.

 

كل من عملوا مع «سنترا» يعلمون أنهم في الواقع يعملون لدى حكومة الولايات المتحدة. لو قالوا إنهم الاستخبارات المركزية؛ فسيقلق الآخرون، أما أنا فلا أخفي الأمر أمام زملائي، وإن أزعجهم الأمر فلا يهم.

 

كان مؤسس الشركة ورئيسها التنفيذي، هارولد روزنباوم، مستشارًا للعلوم والتكنولوجيا لدى «سي آي إيه»، بينما عمل نائب الرئيس، ريك بوجسكي، رئيسًا لقسم الجزيرة الكورية في الاستخبارات التابعة لوزارة الدفاع، وكان نائب الرئيس المختص بالأبحاث، جيمس هاريس، مديرًا للبرامج التحليلية في «سي آي إيه» طوال 22 عامًا، وعمل بجي ليونس، مدير قسم العلاقات الدولية، ضابطًا ومديرًا في وكالة الاستخبارات المركزية لوقت طويل، وقضى عدة فترات من خدمته في شرق آسيا، أما مدير قسم التحليلات، ديفيد كانين، فقد قضى 31 عامًا محللًا في وكالة الاستخبارات.

 

ينتقل الكاتب لأستاذ العلوم السياسية بجامعة إنديانا، والذي تحدث -مثل بوث- في العديد من مؤتمرات «سنترا»، ويقول: «كل من عملوا مع «سنترا» يعلمون أنهم في الواقع يعملون لدى حكومة الولايات المتحدة. لو قالوا إنهم الاستخبارات المركزية فسيقلق الآخرون، أما أن فلا أخفي الأمر أمام زملائي، وإن أزعجهم الأمر فلا يهم. أنا مواطن أمريكي، وأشعر بأنني يجب أن أقدم لحكومتي أفضل مساعدة ممكنة».

 

كان عالم آخر قد قدم 4 محاضرات مع «سنترا» لعملاء عير معروفين، بحسب ما أبلغوه، ولم يعلم أن هؤلاء العلماء هي أجهزة استخباراتية أمريكية حتى لاحظ أن بعض الحضور لا يضعون سوى اسمهم الأول فقط. فقد قابل واحدًا أو اثنين من هؤلاء في مؤتمر أكاديمي، ولم يكونوا يضعون ملصقات بأسمائهم، ولم يدرجوا على قائمة الحضور.

 

وفي سعيها الحثيث لإخفاء صلتها بـ«سي آي إيه»، أزالت «سنترا» السير الذاتية لمديريها من على موقعها عام 2015،  وتضمنت قائمة أبرز عملاؤها وزارة الأمن الداخلي و«إف بي آي» والجيش و16 مؤسسة فيدرالية، لكنها لم تتضمن «سي آي إيه». ويقول الكاتب إنه عندما سأل رئيسها روزنباوم عما إذا كانت الشركة تعقد مؤتمرات للوكالة، أجابه: «أنت تتصل بالشخص الخطأ، لا علاقة لنا بهذا الأمر»، قبل أن ينهي المكالمة.

 

وعندما ذهب الكاتب لمقر الشركة في ولاية ماساشوستس، طُلب منه في استمارة دخول المكان الإفصاح عن جنسيته وسبب الزيارة، سواء أكان سريًا أم لا؛ حينئذ استدعى موظف الاستقبال مديرة الموارد البشرية ديان كولبتس، والتي استمعت للكاتب بأدب -حسب وصفه – ثم أخبرت روزنباوم، قبل أن تعود لتقول إن «سنترا» لن تعلق على الأمر. مضيفة: «في صراحة الأمر، لا يود عملاؤنا أن نتحدث مع الإعلام».

 

الانشقاق مقابل الدكتوراه

تعد المؤتمرات العلمية هي وسيلة العلماء الإيرانيين الذين يرغبون في الهروب إلى الغرب، وقد استغلت «سي آي إيه» نقطة الضعف هذه. فيقول الكاتب إن ديفيد آلبرايت من معهد العلوم والأمن الدولي قد أخبره بأن الحكومة الأمريكية قد أنفقت «ما لا يحصى من المال» على جهود التخفي من أجل تعطيل برنامج تطوير الأسلحة النووية الإيراني، وكانت إحدى هذه الجهود عملية بريان درين للـ«سي آي إيه»، والتي سعت لحث كبار علماء الطاقة النووية الإيرانيين على الانشقاق.

 

ولأن الوصول إلى هؤلاء العلماء في إيران كان أمرًا صعبًا، قامت «سي آي إيه» بإغوائهم عبر مؤتمرات عُقدت في دول صديقة أو محايدة، بحسب ما قال ضابط استخباراتي سابق للكاتب. إذ تختار الوكالة موضوعًا، بالتشاور مع إسرائيل، ثم ترتب لمؤتمر في مؤسسة علمية مرموقة عن طريق وسيط – عادة ما يكون رجل أعمال – يتعهد بتمويل المؤتمر بما يتراوح بين 500 ألف حتى مليوني دولار، من أموال الوكالة.

 

وقد يملك رجل الأعمال هذا، شركة تقنية، أو قد تنشئ له الوكالة شركة وهمية، حتى يبدو دعمه منطقيًا بالنسبة للمؤسسة التي لا تعلم بتلاعب وكالة الاستخبارات. يقول ضابط سابق بالوكالة: «كلما كان جهل الأكاديميين بالموضوع كبيرًا كان الأمر أكثر أمانًا للجميع». أما الوسيط، فيعلم بأنه يساعد «سي آي إيه»، لكنه لا يعلم السبب، ولا تستعين به الوكالة سوى مرة واحدة.

 

يركز المؤتمر على أحد زوايا الفيزياء النووية ذات التطبيقات المدنية، ويُملأ بالتفاصيل التي تهم أبحاث الإيراني المستهدف. وفي أغلب الأوقات يتولى العلماء النووين مناصبًا جامعية، ومثلهم مثل باقي الأساتذة الجامعيين، فهم يحبون الولائم، بحسب تعبير الكاتب. إذ تسمح لهم الحكومة بالسفر أحيانًا، تحت الحراسة، لتتعرف على آخر الأبحاث، ولمقابلة مصنعي التقنيات الحديثة، ولأغراض الدعاية السياسية.

 

 

الصحافي الإسرائيلي رونن برجمان، يقول للكاتب: «من وجهة نظر الإيرانيين، فإنهم سيستفيدون من إرسال العلماء لمؤتمرات حول الاستخدام السلمي للطاقة النووية». وجدير بالذكر أن برجمان – الصحافي الواعد بحسب وصف الكاتب – قد ألّف كتاب «الحرب السرية مع إيران»، ويعمل على كتابة تاريخ جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد). ويُكمل برجمان أن الإيرانيين يُمكنهم القول: «نعم نرسل علماءنا للمؤتمرات لنستخدم تقنية مدنية لأغراض مدنية».

 

وقد ينتحل ضابط «سي آي إيه» صفة طالب، أو مستشار فني، أو أحد العارضين من أصحاب الأكشاك. وأولى مهامه أن يبعد الحراس عن العالِم المستهدف. وكانت الطريقة في إحدى المرات هي تسميم وجبة الحراس بواسطة عمال المطبخ المجندين من الوكالة، ليبقى الحراس مشلولين بسبب القيء والإسهال، على أمل أن ينسبوا علتهم هذه لطعام الطائرة، أو أي طعام غريب آخر تناولوه.

 

وإن كان العميل محظوظًا، فيحصل على بضع دقائق مع العالم منفردًا، ليقدم له عرضه. قبلها يكون العميل قد راجع معلوماته عن الإيراني بقراءة الملفات وإرسال بعض المجندين من العلماء للتقرب منه؛ لكي يثبت العميل أنه يعلم عنه كل شيء، حتى أسراره الحميمية، إن شك العالم أنه لا يتبع «سي آي إيه» (أخبر أحد الضباط عالمًا مستهدفًا من قبل بأنه يعلم أنه أصيب بسرطان الخصيتين وفقد اليسرى منهما).

 

بمجرد استقلال العالم للسيارة المتجهة للمطار، تبدأ الوكالة في إصدار الأوراق والتأشيرات اللازمة له بالتنسيق مع الوكالات الاستخباراتية الحليفة، كما أنها لا تضني جهدًا في جلب زوجته وأطفاله للولايات المتحدة، لكنها لن تجلب حبيبته، كما طلب أحد العلماء.

 

قد يتراجع العالم عن انشقاقه ويهرب بعد أن يوافق. يقول أحد الضباط السابقين للكاتب: «نعيد تجنيد الرجل عدة مرات بشكل مستمر». بمجرد استقلال العالم للسيارة المتجهة للمطار، تبدأ الوكالة في إصدار الأوراق والتأشيرات اللازمة له بالتنسيق مع الوكالات الاستخباراتية الحليفة، كما أنها لا تضني جهدًا في جلب زوجته وأطفاله للولايات المتحدة، لكنها لن تجلب حبيبته، كما طلب أحد العلماء. وتسكنهم الوكالة مكانًا جديدًا، وتوفر لهم ولعائلاتهم مزايا تمتد لفترات طويلة، بما في ذلك دفع مصاريف الدراسة الجامعية وما بعد الجامعية.

 

وينقل الكاتب عن أحد الضباط السابقين الضالعين في تلك العملية أن عدد العلماء المنشقين، عن طريق المؤتمرات العلمية وغيرها من الطرق، كان كافيًا لإعاقة برنامج التسليح النووي الإيراني. إذ يقول: «إن أحد مهندسي الطرد المركزي في برنامج التسليح النووي قد وافق على الانشقاق تحت شرط واحد، أن يدرس الدكتوراه في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا».

 

للأسف، لم يُحضر المهندس شهاداته أثناء هروبه، فرفضه المعهد في البداية، لكن وكالة الاستخبارات أصرت على قبوله، وأراد المعهد إرضاء الوكالة؛ فاشترط أن يجتاز العالِم اختبارات القبول، وأعد مجموعة من الأساتذة ليمطروه بالأسئلة، لكن الإيراني برع في الاختبار، وقبله المعهد، وحصل على درجة الدكتوراه.

 

وفي الوقت الذي ينكر فيه إداريو المعهد معرفتهم بأيِ من هذه التفاصيل، إذ يقول رئيس قسم الهندسة الميكانيكية جانج شن: «أنا أجهل هذا الأمر تمامًا». أكد اثنان من الأكاديميين هذه القصة. أحدهم أستاذ هندسة النفط بجامعة جنوب كاليفورنيا، محمد سهيمي، والذي يدرس التطور النووي والسياسي لإيران، أخبر كاتب التقرير أن منشقًا عن البرنامج النووي الإيراني قد حصل على الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية من معهد ماساشوستس. بينما يقول أستاذ الهندسة الميكانيكية في المعهد تيموثي جتوسكي: «أعرف شابًا كان في معملنا، وعلمت أنه قد عمل في الطرد المركزي في إيران»، ويقول للكاتب إنه تساءل في عقله وقتها عما حدث.

 

 يختتم الكاتب  تقريره بالقول: «إن أهمية تجنيد العلماء الإيرانيين تراجعت بعد الاتفاق الإيراني في 2015، والذي تعهدت بموجبه أن تحد من تطوير الأسلحة النووية في مقابل رفع العقوبات الدولية. لكنه عاد وأضاف بأنه في حال أراد ترامب التخلص من الاتفاق أو مراجعته، بعد أن رفض توقيعه في سبتمبر (أيلول) الماضي، فإن مؤتمرات «سي آي إيه» لاصطياد علماء الطاقة النووية الإيرانين، قد تعود في الخفاء».

You might also like