قميص عفاش
تُسجّل واقعة «قميص عثمان» في التاريخ العربي والإسلامي بوصفها تجسيداً حياً لعملية التوظيف السياسي للجريمة من أجل الوصول إلى السلطة. فبعد حادثة مقتل الخليفة الثالث، عثمان بن عفان، وتنصيب الخليفة الرابع، علي بن أبي طالب، عمل معاوية بن أبي سفيان على تأليب الناس وتحريضهم، مستعملاً قميص عثمان الملطخ بدمه، حيث طاف به مدينة دمشق والمدن الأخرى من أجل حشد الناس لمقاتلة علي بن أبي طالب تحت ذريعة الانتقام من قتلة عثمان، وكان الهدف الحقيقي هو الوصول إلى السلطة والسيطرة على مقاليد الخلافة.
هذا ما نراه الآن في اليمن بعد مقتل الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، على أيدي حلفائه الحوثيين في الخامس من ديسمبر الجاري. حيث نرى الكثير من الذين وقفوا في وجه صالح في السابق، بل واحتفلوا بحادثة تفجير مسجد دار الرئاسة في العام 2011، نراهم الآن يحتفون به بوصفه شهيداً وبطلاً؛ لا لشيء، إلا لأنه قُتل على يد عدوهم، ولأنهم يسعون لاستثمار هذا الحدث سياسياً من أجل تحقيق أهداف سياسية عبر استمالة أتباعه، ومحاولة ضمهم إلى صفوف مواجهة الحوثيين عبر استثمار هذا القميص، بغض النظر عن كل المخاطر التي قد تصنع ديكتاتورية لا تختلف في سياستها عن سياسة عفاش ولا حليفه اللدود الحوثي.
لقد انقسم «المؤتمريون» منذ عام 2011، وبدأوا يتركون علي صالح. ومع كل موجة من موجات التحولات السياسية، يقل عدد «مؤتمر صالح». الآن، وبعد مقتله على أيدي حلفائه، فسينقسم المتبقي على جهتين: الأولى ستناصر الحوثي، والأخرى ستلتحق بالشرعية. لهذا، نرى هؤلاء الذين يرفعون قميص عفاش من غير «المؤتمريين»، إنما هدفهم الحقيقي هو الوصول إلى السلطة عبر استمالة عدد أكبر من «المؤتمريين» وتوظيفهم في صالح جبهة «الشرعية».
ليس المطلوب إدانة صالح أو صناعته رمزاً أو محاكمته الآن، فقد انتهى أمره على يد حليفه الذي مكّنه من رقبته ومكّن البلد من كل إمكاناته قبل ثلاث سنوات. ولكن ما يهمنا هو أن نسائل صالح بوصفه دوراً سياسياً ما زال فاعلاً حتى اللحظة. إذا كان عفاش قد مات، فإن سياسته ما زالت موجودة عبر ممثلي دولته، فقد حكم بهم اليمن على مدى أكثر من 38 سنة. لذا نجدهم الآن يرفعون قميصه ليصلوا به إلى السلطة أولاً، وثانياً أنه لو تمت محاكمة فترة حكم صالح فإنهم أول من ستتم محاكمتهم؛ فهم الأدوات التي استعملها لتنفيذ تلك السياسات.
من حق أي طرف أن يعبر عن مشاعره الإنسانية تجاه أي شخص، لكن حقائق العدالة ينبغي أن تتجاوز أي عاطفة. كما أن الغاية التي يرفعها البعض عن حسن نية، لا يمكن أبداً أن تبرر هذه الوسيلة. لا ينبغي أبداً أن نتغاضى عن الكثير من الجرائم ضد الإنسانية والظلم والقتل خارج القانون التي حصلت في العهد السابق، والتي ندفع الثمن بسببها حتى الآن. إذا كان علي صالح قد قُتل وهو يقاتل الحوثيين، فإنه ينبغي أن نعرف أنهم جزء واحد فقط من سياسته في إدارة اليمن خلال العقود السابقة. ليس المطلوب التهجم أو التجريح، كما هو مرفوض أيضاً التمجيد والمديح. نحن بحاجة إلى محاكمة عادلة، ليس لشخصه، وإنما لما تبقى من أدواته التي شاركته إدارة البلد بكل تناقضها في الماضي، وهي تريد الآن العودة إلى السلطة حاملة لواء الانتقام له، بعد أن فشلت هي في قتله.