ثمة تقارب سياسي في الساحة اليمنية، الجنوبية بالذات، بين كل من دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطة الرئيس عبدربه منصور هادي (الشرعية)، ومن خلف هؤلاء جميعاً المملكة العربية السعودية، وهذا التقارب يتجلى في أوضح صوره من خلال الزيارات التي يقوم بها رئيس الحكومة د.أحمد عبيد بن دغر، لعدد من المحافظات والمعسكرات في سابقة هي الأولى له ولمسؤول كبير من الشرعية، ومن خلال الخطاب السياسي والإعلامي الناعمَين الذي عمَدَتْ له كل الأطراف تجاه بعضها بعض، بلغت ذروتها بمفردات التملّق وعبارات المجاملات المتبادلة.
هذا التقارب لن يكون بعيداً عن الرضاء والإشراف السعودي، فهو تقاربٌ أتى على ما يبدو ضمن صفقة بين الرياض وأبو ظبي لترتيب الوضع المستقبلي في اليمن، بعد أن استشعرت هذه الدول حالة التململ الدولي حيال هذه الحرب التي طال أمدها وخلّـفت وضعاً إنسانياً مروعاً، وبالتالي لا نستبعد أن يكون هذا التقارب هو بوادر التسوية أو بالأصح التوافق السعودي الإمارتي وتقاسم النفوذ والمصالح بهذا البلد الممزق، خصوصاً وأن ثمة تقارير دولية تحدثت باليومين الماضين عن عدة صفقات سياسية مفترضة تنسج خيوطها خلف الحَــجب، أهمها على الإطلاق ما نشره منتدى «جست سيكيورتي» الأميركي، يوم الخميس الماضي، في تحليل نشره على موقعه الإلكتروني، عن صفقة كبيرة تتم بشكل سري بين السعودية واليمن لإنهاء هذه الحرب.
السعودية في الأيام الماضية دفعت إلى عدن بعدد من رجالها من تخصّصات عسكرية واستخباراتية نوعية، بالتوازي مع الحديث عن وصول قوات سودانية إضافية إلى عدن، وهؤلاء الرجال السعوديين سيكون لهم دور في عدن في الشهور، وربما الأعوام القادمة، للإشراف على التدريب والمراقبة للوحدات العسكرية والأمنية، فضلاً عن صياغة التقارير السياسية. يأتي هذا مع الحديث عن ترتيبات تقوم بها السعودية بالتنسيق مع سلطة هادي وحزب «الإصلاح» لعقد جلسة لمجلس النواب اليمني في عدن، وهذه الخطوة إن تمّت بهدوء وبدون أي عتراض جنوبي ستشكل المسمار الأخير في نعش علاقة الجنوب بدول التحالف، وهو- أي الجنوب- الطرف صاحب الإنتصار الوحيد في هذه الحرب مع حلفاء مخادعين.

ذهب بعض المحللين والنشطاء الجنوبيين إلى تفسير تحركات بن دغر، إلى عدد من المعسكرات والمحافظات بإشراف ورضاء وترحيب إماراتي، على أنها تحركات فردية منه تندرج ضمن بحثه عن الرضاء الإماراتي، وتحت راية علمَــيّ الجنوب والإمارات، وأنها تحركات هدف بن دغر من ورائها تقرباً من «المجلس الانتقالي الجنوبي» الذي يحظى بحضور شعبي مميز، في مسعى من الرجل لترتيب وضعه المستقبلي عند هذه الجهات، وذلك لما عُــرف عنه من سرعة تلقبه بالمواقف السياسي وجنوحه دوماً إلى الجهة الأقوى، ولكن هذا التفسير لا يمكن استعابه بسهوله، فالرجل لن يقدم على هكذا خطوة مهمة متجاهلاً الإرادة السعودية وحزب «الإصلاح»، وإن كان من الممكن أن يتجاهل الرئيس هادي.
فالرجل لم يتحرك فجأة بهذه الثقة وبهذه المساحة الجغرافية، وهو الذي لم يكن يجرؤ في الأشهر الماضية على تخطي حي كريتر، بذريعة الوضع الأمني المضطرب، إلا بموافقة إماراتية واضحة اليوم، ولم تكن هذه الموافقة الإماراتية بهذا الوقت وبهذا الإنفتاح الكبير على هذه الحكومة التي تميزت علاقتها بأبوظبي بالتوتر والريبة في الأشهر الماضية، إلا بتوافق مع الرياض، ولها ارتباطاتها بترتيبات إقليمية تتم اليوم بطريقة ناعمة، سنتطرق إليها بالأسطر القادمة.
هذا التقارب الإماراتي مع سلطة شرعية هادي و«الإصلاح»، ومع الجانب السعودي، أمر واضح لم يعد يقبل التشكيك أو الجدل. فلم يبقَ فيه محاولة سبر غموض البعد السياسي وطبيعة فحواه. فمن الواضح من الصورة العامة لهذا المشهد الذي بدأ لتوّه بالتشكل، أن هذه الأطراف (الإمارات والسعودية وهادي وحزب الإصلاح وباقي القوى المنضوية في هذه الجبهة) قد اتفقت، ولو بالخطوط العريضة، على اقتسام المصالح (ونحن هنا نشير بالذات إلى مصالحهم في الجنوب) وستتقاسمها هذه الأطراف، كلٌ حسب ثقله المعروف، سواء في الجنوب أو على الساحة الدولية، ولن يكن فيها من غالب ولا مغلوب، إلا الطرف الجنوبي الذي يبدو أنه سيخرج من هذا المولد الإقليمي الكبير بلا حمّــص.
لا يمكن عزل هذا التطورات في اليمن عمّا يجري من ترتيبات في المنطقة، وبالذات التقارب السعودي العراقي، أو قل السعودي الشيعي في المنطقة، فهذا التقارب يبدو أنه يشير إلى بداية تغير في السياسة السعودية حيال خصومها في المنطقة، وبالذات مع الخصم الإيراني، فالخطوات المفاجئة والجرئية التي أقدمت عليها الرياض مؤخراً تجاه خصمها اللدود، إيران والشيعي عموماً، والمتمثلة بالزيارت التي يقوم بها رموز شيعية من العيار الكبير إلى السعودية، مثل زعيم «التيّار الصدري» السيّد مقتدى الصدر، والمصافحة التاريخية بين وزير خارجيتها عادل الجبير مع وزير خاريجة ايران محمد جواد ظريف، وهي المصافحة التي لا شك أنه لم تأت عفوية ولا بقرار شخصي من الجبير، بل أتت بأوامر من دائرة القرار السعودي.
الأزمة السياسة التي تعصف بدول الخليج (قطرمن جهة والسعودية والامارات والبحرين ومعهم مصر) ألقت بظلالها الداكنة على صانع القرار السعودي والإماراتي خصوصاً حين قوي العود القطري وأصبح أشد صلابة وهو سيتمد قوته من المال والغاز المتخم الذي استطاع استمالت مواقف القوى العظمى من دون استثناء، ما أشعَر الدول المحاصرة للدوحة بأنها في مأزق في ظل هذه الأزمة، وشرعت في محاولة منها لتضييق الخناق على العنق القطري بعد أن ارتخى كثيراً بالانفتاح على المحيط وتسوية الخلافات مع هذا المحيط، وبالذات مع الجار الإيراني والعراقي (هذا علاوة على اضطراب الأوضاع بمناطق عديدة داخل المملكة وفي منطقة القطيف – شرقاً – والعوامية تحديداً) وهذا التقارب سوف لن يكون اليمن بعيداً عن انعكاساته سلباً وإيجاباً، فمثلما كانت الحرب في اليمن وليدة الخلافات السعودية الإيرانية، فإن التسوية والمصالحة ستنعكس عليه بطبيعة الحال، من خلال تسوية سياسية لن تكون جميع الأطراف خاسرة بأي حال من الأحوال، كما يظهر لنا اليوم المشهد، فالطرف «الحوثي – الصالحي»، بمجرد أن يكون هناك نهاية لهذه الحرب، فهذا يعني لهم نصراً كبيراً، وفقاً للمنطق السياسي المعروف: (إن بقي الطرف الأضعف بأية حرب موجوداً إلى نهايتها فهو في حكم الرابح).
ومن خلال تبدّي هذا المشهد، يظل الطرف الجنوبي هو الخاسر والمتزحلق الأبرز من هذه التسويات، على الأقل حتى اللحظة، إن لم يستجد في الأمور أي جديد. أمّـــا في حال قلبَ الجنوب ومجلسه الإنتقالي وثورته المسلّحة وحراكه التحرّري الطاولة على الجميع واتخذ قررات بحجم التحدي، قرارت تجبر الشركاء (الذين اعتقد أنهم شركاؤه في هذه الحرب قبل أن يقلبوا له ظهر المجن) قبل الخصوم على احترام الإردة الجنوبية التحرّرية. ففي هذه الحالة لن يكون الجنوب إلا رقماً صعباً يصعب تجاوزه أو انتزاعه من على ظهر الخارطة السياسية المتشكلة حديثاً.