البشير في الميزان السعودي.. تأجير الجيش أو الانقلاب (تحليل)
متابعات | البديل المصرية
تمر المنطقة بظرف تاريخي هو الأول من نوعه منذ نشأة الكيانات السياسية التابعة للولايات المتحدة في أواخر القرن الماضي؛ فبعدما كانت المعادلة الحاكمة هي صراع الدول الاستعمارية على المستعمرات، مروراً بنمو الحركات الوطنية تحت الحماية ثم التحرر الوطني، وصولاً للتبعية للسياسات الأميركية، أضحت المعادلة في السنوات القليلة الأخيرة تتمثل في صراع القوى الإقليمية الخليجية الحليفة لواشنطن، وتحديداً السعودية والإمارات وقطر على الوكالة الأميركية. فيما تدور السياسة الخارجية لباقي دول المنطقة في فلك وحسب بوصلة سياسات هذه الدول منفردة أو مجتمعة أو متقاطعة، حيث أن حلفاء واشنطن بجانب منافساتهم على الوكالة الأميركية باتوا يتصارعون على إرث ومقدرات قوة خارجية وجيوستراتيجية لدول هي أيضاً حليفة لواشنطن مثل مصر، ولكن هذا كله يقع ضمن إطار الدول الحليفة للولايات المتحدة، التي يُطلق عليها دول “الاعتدال”.
السودان.. أقل من شريك أقل من تابع
التغير في هذا الاصطفاف الإقليمي أنتقل من معادلة شكل أحد طرفيها دول تقبل وتتبع القرار الأميركي رأساً وتقوم أنظمتها بالعمل تحت مظلة السياسات والحماية الأميركية، ودول تمانع الهيمنة الأميركية وتقاوم مفاعيل تواجدها في المنطقة. ثم تحول إلى دول حليفة للولايات المتحدة تتنافس وتتصارع فيما بينها بدرجات متفاوتة على التصدر للوكالة الأميركية في المنطقة بشكل مركزي، وعلى الأطراف صراعات وملفات تتعلق بتوطيد حكم أنظمتها. وهنا حدود الصراع لا يقف عند السير في ركب السياسات الأميركية للدول الباقية الغير قادرة أو الغير معنية بالصراع على الوكالة الأميركية، ولكن وجوب تبعيتها لأي من القوى الإقليمية الحليفة لواشنطن والمتصارعة فيما بينها على وكالتها. وهنا نموذج السودان الأجدر بالتأمل من معظم الزوايا التي تتعلق بالتغير الجذري في معادلات الصراعات الإقليمية والصراعات داخل المحور الواحد، وكذا الصراع بين حلفاء واشنطن، وأخيراً حتمية الانجرار إلى مغامرات هذه الدول الخاصة بإثبات القدرة والقوة والجدارة للقائمين على الحكم فيها، مثلما هي حرب اليمن حالياً.
وعطفاً على السابق، فإنه من المهم أن نلقي بالضوء على سلوك الخرطوم في السنوات القليلة الماضية لفهم مأزق راهن متعلق بنيوياً بنمط السياسات المتبع حالياً بين حلفاء واشنطن بعضهم البعض وبينهم وبين دول مثل السودان؛ فنظام البشير انتقل بين محاور الصراعات الإقليمية بخفة ومرونة يحسدها من يتكئوا على عصا مثله من الحكام المعمرين في الخليج، حيث جسد النظام السوداني إجادة لمبدأ البقاء على حافة المخاطر والانهيار -لأسباب تراكمية تتعلق بنمط الحكم في الداخل السوداني لا يتسع المجال لشرحها- وماهر في التملص من أي التزامات سابقة تجاه هذه الدولة أو حتى التزامات دولية أممية، والانتقال من النقيض للنقيض بين محاور المنطقة السياسية، للهروب من أزمات داخلية وخارجية وبغرض تحقيق مكسب لا يتحقق في معظم الأحيان بالنسبة للبشير ونظامه، بل أنه يضطر إلى دفع ثمن باهظ لهذه الانتقالات التي لا توازن الاستفادة المقابلة لها يتجاوز المساومة على سياسات ومواقف مقابل منافع ما، إلى التفريط في أسس وشرعية والانحدار من السعي للتحالف إلى التذيل والاستخدام على نمط يناسب العصور الوسطى من حيث إدارة العلاقات الخارجية بين الدول والكيانات السياسية.
الأمر السابق ليس بغريب على هكذا نظام في منطقة عجت بالفوضى والسيولة وإعادة ترتيب الصفوف والاصطفاف في السنوات القليلة الماضية أكثر من مرة، ولكن الغريب أو المثير للدهشة وربما الشفقة أن تكيف نظام البشير لم يكن على سرعة وتيرته وخفة قفزة من النقيض للنقيض بين القوى الإقليمية سوى انعكاس لحالة شراء الولاء والتبعية وليس التعاون والتحالف أو حتى الشراكة؛ فحلفاء واشنطن في الخليج يديرون الصراع بينهم وبين الدول والكيانات المناهضة لواشنطن في المنطقة أو التي تقف في موقف الند بآليات وعقليات صحراوية قبلية وطائفية، بل أن إدارة المنافسة على الوكالة الأميركية بين هؤلاء الحلفاء يدار تقريباً بنفس الآليات المتخلفة البعيدة عن الفعل السياسي، وبالتالي في هكذا بيئة وظروف ذاتيه وموضوعية يكون موقع نظام البشير منها وفيها موقع الاستخدام والتذيل وليس التحالف والشراكة.
اللعب على هامش الأزمات بين “الشركاء”
المثال الأبرز على السابق يأتي من رصد سلوك الرياض تجاه الخرطوم في السنوات التالية على 2011، فعودة العلاقات السعودية-السودانية في 2015 بعد قطيعة استمرت مايزيد عن ثلاث سنوات بين البلدين، سبقها تقليص السعودية لاستثماراتها ومساعداتها للسودان، وذلك على أثر فتح البشير لقنوات تعاون اقتصادي وثقافي إيرانية في بلاده على خلفية موقف الرياض المتجاهل لدعم البشير إبان أزمة استدعائه للمحاكمة الدولية في 2009، وصدور قرار اعتقال دولي بحقه. هذه القطيعة بلغت ذروتها في 2013 عندما منعت المملكة عبور طائرة البشير لأجوائها في طريقة إلى إيران، وقتها قلصت السعودية وجودها الدبلوماسي في السودان إلى حد إغلاق سفارتها عملياً اللهم إلا خدمة تأشيرات الحج.
هذا التأزم غير المسبوق في تاريخ العلاقات بين نظام البشير والمملكة انتهى في ساعات قليلة هي عمر اجتماع البشير مع محمد بن سلمان، ولي ولي العهد ووزير الدفاع السعودي في مارس 2015، الذي كان على وشك بدء معركته في اليمن، ويحتاج إلى حشد عربي وإقليمي لعاصفة الحزم، طبقاً لرؤية إستراتيجية شُرع في تنفيذها منذ تولي الملك سلمان والتغيرات التي حدثت في البيت السعودي الحاكم، والتي كانت انعكاساتها الخارجية تتلخص في إنهاء كل الخلافات الثانوية بين المملكة ودول المنطقة من أجل صراعها الرئيسي مع إيران، وهذا تطلب بالنسبة للحالة السودانية أن تسعى المملكة وبسرعة في تعويض الخرطوم بما يزيد عن حاجتها لطهران، في النواحي المادية والسياسية بهدف إنهاء العلاقات بين الأخيرة ونظام البشير بشكل حاسم وسريع، ما تم فعلاً، كذلك ضم السودان لتحالف الحزم ومشاركة قوات سودانية في المعارك البرية في اليمن، وأخيراً أن تسعى الرياض لخلق ورقة ضغط مستقبلية عن طريق السودان وأثيوبيا في منطقة جنوب البحر الأحمر، أو شمالاً تجاه مصر، حيث تتباين الرؤى بين القاهرة والرياض منذ بداية 2015 فيما يخص السياسات الخارجية، خاصة فيما يتعلق بالاستدارة السعودية الإيجابية تجاه جماعة الإخوان وتركيا وقطر خلال عامين منذ بداية حكم الملك سلمان، وكذلك التباين بين العاصمتين فيما يخص سيناريوهات حل الأزمة السورية، واستخدام البشير ونظامه كأداة ضغط، فيما أرادت الخرطوم أن تحل محل القاهرة بالنسبة للرياض وتطلعاتها ومغامراتها الإقليمية، فلجأت الخرطوم إلى تصعيد حلايب وشلاتين.
خُفي البشير!
وهنا يكون السؤال البديهي، هل تحريك مسألة حلايب والشلاتين طيلة العامين الماضيين إبان توتر العلاقات بين القاهرة والرياض وبهذه اللهجة التصعيدية مطلب أصيل للبشير أم يستهدف أمور أخرى وبشكل غير مباشر وبه استقواء بموقف سعودي داعم للطرف الأول؟ التفسير العقلاني يُستنتج بمتابعة مسار التلاقي بين الخرطوم والرياض منذ 2015، وهو -اختصاراً- أن الأخيرة لجأت إلى استحداث أوراق ضغط خارجية ضد القاهرة وتحريك ملفات قديمة كحلايب والشلاتين، أو حتى سد النهضة ودعم مالي عن طريق بنوك المملكة له ولسدود ومشروعات أخرى في السودان، لربط موقف الأخيرة بموقفها في المنطقة عموم، ولحسم الخلافات المستجدة بينهم وأخرها تسويف تنفيذ اتفاقية ترسيم الحدود بعد ردة الفعل الشعبية داخل مصر على التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة، وهو الأمر الذي دونه لن تحقق الرياض مسعاها في إبقاء القاهرة في خانة التابع للسياسات السعودية الخارجية، لا الشريك كما كان الحال إبان عهد مبارك، وفيما يخص السودان، سواء كان مطلب البشير أصيل فيما يتعلق بحلايب والشلاتين وطلب دعم السعودية مقابل المشاركة في عاصفة الحزم وإنهاء علاقاته مع إيران، أو كانت تقف السعودية وراء ذلك، فأن الصورة في المجمل وبالمحصلة تقول أن الرياض تضع أصابعها في المجال الاستراتيجي المصري جنوباً، بشكل سلبي – وليس إيجابي كما كانت تفعل الرياض قبل عقديين بالضغط بأموالها لصالح القاهرة – وذلك على أثر تبدل البوصلة السياسية الخارجية للمملكة وتفضيلها للتعاون مع المحور الإخواني – وحتى إسرائيل- بسبب تغير أولوياتها وتنحية الخلافات الثانوية لحساب صراع تراه رئيسي، حتى وإن كان هذا على حساب مصر، التي تعد نفسها حتى اللحظة حليفة للمملكة ولا خلاف بينهم في السياسة الخارجية ولا على مستوى ثنائي يصل إلى إصرار الرياض للإضرار بالأمن القومي المصري باستخدام نظام البشير كشوكه في خاصرة مصر الجنوبية.
لكن إزاء تراجع التأزم بين القاهرة والرياض على أثر التدخل الترامبي لخفض وتيرة الصراع بين دول الاعتدال، وحسم الرياض موقفها عملياً تجاه المحور القطري-التركي-الإخواني، وتطبيق ذلك في مفاعيل الازمة القطرية المستمرة حتى اليوم، فإن الحاجة السعودية للبشير تضاءلت من المنافع المشتركة إلى الاستخدام من طرف واحد، خاصة وأن آلية إدارة الرياض لعلاقاتها الخارجية تقف عند حدود “من ليس معنا فهو ضدنا”، وبالتالي فإنه بخلاف تضاؤل حاجة الرياض للخرطوم على النحو السابق ذكره فيما يتعلق بمصر وأمور أخرى لها علاقة بنمو نفوذ الرياض في البحر الأحمر، فإن البشير لم يكن على نفس موجة التحالف الرباعي ضد قطر، بالإضافة إلى أن الخرطوم تعمل حالياً وفق قناعة بأن “تحالفها” مع الرياض لم يأتي لها بفائدة كانت ترجوها؛ سواء فائدة سياسية فيما يخص القاهرة، أو فائدة مادية مقابل مشاركة السودان في حرب اليمن والخسائر التي يتكبدها الجيش السوداني هناك. هذا كله وأكثر يأتي في مناخ داخلي وخارجي لا يصب في مصلحة نظام البشير الذي أجاد البقاء على الحافة، ولكنه دوماً ما يضطر إلى دفع ثمن، لا أن يحصل مكسب يدعمه في الداخل، فإذا به يضطر أن يؤجر جيشه ويفرط في نصف بلد، ويبقى صراعات في النصف المتبقي تهدد بفقد ما تبقى منه –دارفور- ويزيد، هذا الأمر دفع رهانه على أن أسس علاقاته مع المملكة يقف على أرضية الشراكة والمصالح المشتركة، إلى حد تقويض نظامه إن لم يطع الرياض فيما يخص إرسال مزيد من الجنود السودانيين إلى اليمن، فمحاولة الانقلاب التي جرى التكتم عليها بتخطيط إماراتي-سعودي بمشاركة مدير مكتب البشير المتواجد حالياً في الرياض، طه عثمان، أتت بعد رفض البشير لإرسال مزيد من الجنود إلى اليمن بدون تجديد الاتفاق بسعر جديد لاستمرار هذه العملية. ليجد البشير نفسه الأن أمام خيارين: أما الطاعة والاستمرار في تأجير جيشه على نمط أبعد ما يكون عن المكسب السياسي، أو الإطاحة به من جانب من اعتقد فيهم الشراكة والتحالف!