يوم الثلاثاء، 4 يوليو الجاري، شبكتُ أصابع يدَي العشر على رأسي مندهشاً، وأنا أطالع مقالة صحافية لأحمد عبيد بن دغر، رئيس وزراء سلطة الرئيس عبد ربه منصور هادي، نشرتها بعض المواقع الإخبارية، حذر فيها من حدوث فتنة جنوبية جنوبية – أو بالأصح تمنّى فيها حدوث فتنة جنوبية – في عدن، بين محافظة الضالع ومحافظة أبين، على خلفية التحضير لفعالية في ذكرى احتلال الجنوب في 7 يوليو، أقامها «المجلس الإنتقالي الجنوبي» في مدينة المعلا.
بن دغر، الطالب السياسي الفاشل الذي تخرج لتوه من مدرسة مفعمة بأساليب الدس، هي مدرسة الرئيس اليمني السابق، علي عبد الله صالح، ذلك الرئيس – المُقال الذي ما زال يحكم في حالة نادرة بالوطن العربي – الذي، برغم دهاء حيله، وبراعة مكره السياسي، إلا أنه أثبت أنه أستاذ سياسي فاشل؛ فمعظم تلامذته، وآخرهم المذكور أعلاه بن دغر، أثبتوا أنهم تلاميذ بلهاء وسُذّج. فهذا الأخير، وبرغم التصاقه في السنوات الأخيرة بصالح التصاقاً كبيراً، إلا أن الغباء السياسي يتملكه من ساسه لرأسه.
ففي محاولة منه، قبل أيام، لحرف جوهر التباينات الجنوبية الجنوبية من تباينات سياسية على مشاريع وطنية إلى خلافات جغرافية جهوية، لم يكتف بن دغر بأن تحدث عن فتنة جنوبية مزعومة تلوح في الأفق بحسب زعمه، بل، ولكي يطمئن إلى إثارتها وإيقاظها من مرقدها، عمد إلى ذكر محافظات جنوبية بعينها، يحرضها ضد بعضها بعضاً، مستأنساً بصراعات الجنوب القديمة.
منذ اندلاع الثورة الجنوبية (الحراك الجنوبي) عام 2007م، استخدم الرئيس المنصرف، علي عبد الله صالح، معها عدة أساليب ووسائل ماكرة مختلفة، للحيلولة دون تفاقمها، وفرملتها، وصولاً لوأدها والإجهاز عليها. اتسم أسلوبه الماكر هذا بالتدرج والتسلسل، ابتداءً من شراء الذم وطرق القمع المختلفة، أي انه استند إلى فلسفة الترغيب والترهيب وسياسة «العصا والجزرة». ولما كانت هذه الأساليب كلها فاشلة، اضطر آخرها إلى استخدام آخر العلاج، بالتعاطي مع الموقف الجنوبي المتعاظم بوجهه وبوجه أركان نظامه (الذي كان جُله حينها من الجنوبيين)، لا على أساس العلاج بالكي، بل بأسلوب آخر أشد وطأة على الجنوبيين، وهو إحياء وإثارة الفتنة الجنوبية الجنوبية، وبث روحها من جديد، مستفيداً من خلافات ما قبل عام 90م، ومستعيناً بعناصر جنوبية متمصلحة، قامت بالدور على أسوأ ما يجب، ولكنها ما لبثت أن توارت خلف ستار الخجل وأسوار الفشل. 

صالح وبن دغر كلاهما استخدما هذه الطريقة الخبيثة بوجه الجنوبيين، مع فارق أن الأول ظل يتحاشاها إلى أبعد مدى، ليس تأففاً منها أو حرصاً على دماء الناس وخشية على الوحدة الوطنية والاجتماعية والسلم الإجتماعي، بل خشية من أن يظهر أمام العالم، وهو الرئيس المسؤول عن الجميع، بمظهر الرئيس الذي يزرع بذور الفتنة بين أبناء شعبه، وهو الأمر الذي لم يجد منه بداً في نهاية المطاف. أما الثاني (بن دغر)، ولأنه ذلك التلميذ الفاشل كما أسلفنا، فقد استخدم هذه الوسيلة (الفتنة) من أول طلقة له يطلقها بوجه الجنوبيين وثورتهم، وبدا على إثرها داعي فتنة أكثر منه رئيس حكومة. ليس هذا فحسب، بل بدا معها أنه سياسي من الدرجة الضحلة، يستخدم أساليب قديمة رتيبة أثبتت الأيام – أمامه شخصياً – فشلها وبؤسها. كما بدا معها أيضاً أنه رئيس وزراء لا يقيم للسلم الإجتماعي أي وزن، ولا يكترث للوضع الأمني أبداً.
وبالمقابل، بدا الطرف الذي استهدفه بن دغر ووسائل إعلامه وقنواته الفضائية، وهو «المجلس الإنتقالي الجنوبي»، أكثر حرصاً منه على الحفاظ على الوضع الأمني، هذا الوضع الذي يتسم أصلاً بالهشاشة والرخو. فحين أرسل بن دغر – ربما بتوجيهات عليا من الرياض – عدداً من الأطقم العسكرية إلى ساحة الإحتفال (خورمكسر) التي كان من المقرر أن تحتضن فعالية «المجلس الإنتقالي» بالمناسبة المشؤومة لاحتلال الجنوب في 7 يوليو 94م، قرر المجلس، ومعه كثر من الجنوبيين الحريصين من كل محافظات الجنوب، على تغيير مكان الفعالية ونقلها إلى حي المعلا.
وبرغم كل الجهد الذي بذلته سلطة بن دغر وحزب «الإصلاح» والفئة الجنوبية المتمصلحة المحيطة بالرئيس هادي، في محاولة لإقامة فعالية موازية للتشويش على فعالية «المجلس الإنتقالي»، وبرغم كل ما بذل من جهد وما صرف من أموال، إلا أن الوعي الجنوبي كان صخرة صلبة صلدة تفتّتت عليها كل تلك المساعي لدق أسافين الفتنة والتشظي والفرقة. وكانت ساحة المعلا، قبل اليوم المحدد للفعالية، تغصّ بعشرات الآلاف من الجنوبيين، فيما كانت ساحة خورمكسر التي حجزتها حكومة بن دغر وهادي لأنصارهما خاوية على عروشها، إلى درجة أن عدد المصلين الذين أقاموا الصلاة فيها لم يتجاوز عدد أصابع اليدين، وهم أمام خطيب يقف فوق إحدى سيارات الألوية الرئاسية، بمظهر يبعث على الشفقة عليهم أكثر من الغضب منهم.
خلاصة المشهد، فقد أتت رياح الجنوب بما لا تشتهيه سفن بن دغر وهادي والأحمر، وحطّمت كل أشرعة الشرعية. وعلى إثر ذلك الفشل، وسقوط هذا الرهان، عاد بن دغر، بعد 48 ساعة من «تصريح الفتنة» الذي أشرنا اليه آنفاً، وقبل انطلاق الفعالية بـ12 ساعة، ليطلق تصريحاً تصالحياً مع الحراك الجنوبي، ومع «المجلس الإنتقالي» تحديداً، بعد أن شاهد هزالة الحضور الذي راهن عليه في ساحة العروض بخورمكسر، وبعد أن سمع وشاهد ردود الأفعال الساخطة على تصريح الفتنة الذي أطلقه. إذ قال، في تصريحه الأخير، متداركاً: «كل نزول غداً الجمعة لغير الحراك الجنوبي السلمي، ومن أي طرف كان، إنما يندرج في أعمال الإستفزاز والعبث بالأمن العام، وسيكون فعلاً فوضوياً…».
مع أن هذا الكلام يحاول من خلاله أن يوحي للعالم بأن ثمة قوى في الساحة الجنوبية غير الحراك الجنوبي، إلا أنه حاول أن يجد مخرجاً لحرج جماعته القليلة التي أوعز إليها بمهمة التظاهر لمواجهة فعالية «المجلس الإنتقالي الجنوبي» في المعلا، والتي، كما اتضح لاحقاً، كانت أكثر منه وعياً وحرصاً.