“اليمن مقبرة الغزاة”.. مقولةٌ ارتبطت بالأتراك والاحتلال الراهن لليمن.. التأريخ يعيد نفسه
الاحْتلَالُ العُثْمَـانيُّ في اليمن، كان ضمن السيطرة العُثْمَـانية على العالَم العربي التي نحو أربعة قرون، منذ القرن السادس عشر حتى بداية القرن العشرين، عملت خلالَها على تمزيق الروابط السياسية العربية وتعطيل دورها الحضاري، في الوقت الذي كان الأوروبيون يستفيدون من المعارف التي طوّرها العرب، حيث قسّم العُثْمَـانيون العالم العربي إلى عِدَّةِ ولايات ونصّبوا على كُلّ ولاية والياً عُثْمَـانياً، وفرضوا الضرائبَ المتنوعة والمُجحِفة، وتصرّفوا بالأراضي الزراعية، وأهملوا بناءَ السدود وحَفْر الصهاريج وتطوير الصناعة، وأدَّت كُلّ هذه الأَسَالِيْـب إلى تخلُّف كبير في اليمن ومختلف الدول العربية، في صُوَرٍ سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية كانت من الأَسْبَاب الرئيسية في وقوع العالم العربي تحت الاستعمار الغربي خلال القرنَين التاسع عشر والعشرين.
المطامعُ الأوروبيةُ والعُثْمَـانية في اليمن
أخذت اليمنُ أهميّةً استراتيجيةً أَكْبَرَ لموقعها، في اعقاب اكتشاف رأس الرجاء الصالح والالتفاف جنوب القارة الأفريقية، وباتت عُرضةً للدول الاستعمارية الأوروبية وخَاصَّـةً البرتغالية في القرن السادس عشر، ولما كانت المنافسةُ كبيرة بين العُثْمَـانيين والبرتغاليين، جعل هذا التنافس من الإمبراطورية العُثْمَـانية تهرَعُ صوبَ البحر الأَحْمَــر واليمن، في ظل توسُّعها في مختلف الدول العربية بعد أن سيطرت على مصر وقضت على حُكم المماليك في عاصمتهم.
الخطرُ القادمُ من البحر
في عام 1538م، أمَرَ السلطانُ العُثْمَـاني “سُليمان القانوني” بتحريك حَملةٍ بحرية كُبْرى لغَزْو اليمن بقيادةِ “سليمان باشا”، أَبْحَرَت من ميناء السويس في مصر وطردت البرتغاليين من البحر الأَحْمَــر، ووصلت الحملة إلى قبالة ميناء عدن في العام نفسه.
وكانت عدن حينها جزءاً من الدولة الطاهرية اليمنية التي حكمت جنوبَ اليمن آنذاك، فأرسل قائدُها سليمان باشا إلى أمير عدن اليمني “عامر بن داوود” للمثول أمامه على مَتْن سفينة القيادة بعد أن منحه الأمان، وأنزل جنوداً عُثْمَـانيين إلى الساحل بحُجَّة المرض، وبعد صعود الأمير عامر وعددٍ من مرافقيه على متن السفينة، غَدَرَ بهِ العُثْمَـانيون، وعلقوا جُثتَه على سارية سفينته. وبدأ الجنود الْمَرْضى بكامل عافيتهم للسيطرة على عدن، وبعدَ مقاومة عنيفة سيطر عليها العُثْمَـانيون، وأمر قائدُ الحملة بقتل جميع الطاهريين فيها؛ بحُجَّة تعاونهم مع البرتغاليين.
- ثم سارت الحملة إلى ميناء الصليف في الحديدة ونزلت فيه وتقدّمت قواتها إلى مدينة زبيد التأريخية التي كانت لا تزال تحتَ حكم بقايا المماليك، وتم إخضاعُها للنفوذ العُثْمَـاني وتحوّلت الحديدة إلى قاعدة للسيطرة على كامل التراب اليمني، وفي تلك الأثناء أرسل سليمانُ في طلب حاكم المخاء وغدر به فقتله وبذلك سيطر العُثْمَـانيون على كامل السواحل اليمنية الجنوبية والغربية.
الثورةُ والاستقلالُ عن الاحْتلَال العُثْمَـاني الأول
حقّقت اليمنُ أول استقلال وطني في العالم العربي من الإمبراطورية العُثْمَـانية، في القرن السابع عشر، بطرد الاحْتلَال العُثْمَـاني الأول سنة (1045هـ – 1635م) بثورة شعبية يمنية ضد الولاءة العُثْمَـانيين، تزعَّمَها الإمام القاسم بن محمد، بعد أن استبد الفساد والقهر بالحُكم العُثْمَـاني والاستغلال للمجتمع اليمني، وكانت الثورة من حيث طبيعتها اجتماعيةً وثورة فقراء قام الفلاحون والحرفيون وعُمَّال السُّخرة والمُعدمون بشكل رئيسي من أبناء القبائل والمُدُن، ببُعدها الوطني المناهض للاحْتلَال الأجنبي.
الاستغلالُ والاستعبادُ جوهرُ كُلّ غزو أجنبي
هو اليوم كما كان في الأمس، الاستغلال والقهر والاستعباد جوهرُ الغزو الأجنبي، ودوائر الأطماع الاستعمارية تدورُ اليومَ على اليمن تحت عباءة “التحالف من أجل الشرعية “الزائف، وعن طريق البحر، كما جاء كُلُّ الغُزاة القُدامى، والذي دُفنوا أَيْضاً على هذهِ الأرض. عرف اليمنيون عَهْــدَ الاحْتلَال العُثْمَـاني، بالقَهْـر والظلم الاجتماعيين، من قِبل عددٍ من الولاة، وكبار الموظفين الذين أثقلوا كاهلَ اليمنيين بالإتاوات، والجبايات وجعلوا حياتَهم بائسةً ويائسةً.
أذاقوا اليمنيين صنوفاً من العذاب، وهذا ما دفع اليمنيين إلى التفافهم حول ثورة الإمام القاسم بن محمد، التي حققت في أولى مراحلها انتصاراتٍ كبيرةً أذهلت العُثْمَـانيين وحلفاءهم من القبائل والأسر في اليمن، وكذا الولاة العُثْمَـانيين في مصر الذين كانوا يزوِّدون العُثْمَـانيين في اليمن بالرجال والعتاد
ولاقت الثورة قمعاً ومواجهةً عنيفةً من العُثْمَـانيين، في عهدِ “حَسَن الباشا”، وكان العُثْمَـانيون حينذاك يملكون قوةً عسكريةً هائلة، قادرةً على اخماد أي تمرد في أيٍّ من الدول الخاضعة لسيطرتهم، وفي مواجَهة الثورة اليمنية، أرسلت الامبراطوريةُ العُثْمَـانية، الجيوشَ والمعدات العسكرية، لكنها سقطت في أيدي الثوار اليمنيين.
التجربةُ القاسميةُ في الحركة الثورية التحَـرّرية اليمنية
لا خلافَ على دور الجماهير في الثورة، فهي صانعةُ التأريخ، ولكن لا يجبُ تجاهُلُ الدور السياسي الذي تصنعه القيادةُ التي تنظّم الثورات والنضالات الاجتماعية والتحَـرّرية، وكان توحد اليمنيين ضد الاحْتلَال العُثْمَـاني والخروج عليه في الثورة القاسمية هو من أبرزِ الدروس التي أعطتنا إياها هذه التجربة التأريخية لشعبنا، والتي نحن بحاجةٍ إليها اليوم لتوحيد الجبهة الداخلية ومعالجة مشاكلها؛ لنصمُدَ في مواجهة تحالف العدوان الاستعماري. وقد اعتمد “الإمامُ القاسمُ بنُ محمد” في قيادة الحركة التحَـرّرية اليمنية آنذاك، وفي الدعوة إليها، على الخطابات والرسائل المطولة والكتب الكثيرة التي كان يرسلُها إلى الأفراد والجماعات في شمال البلاد وجنوبها، أو التي كان يوجّهُها إلى الناس عامةً، مدركاً أهميّة هذه الخطابات، التي كانت عبارةً عن خطابات سياسة وطنية في إطارها الديني، تتلخصُ في الحَثّ على الجهاد والثورة، وعدم الخضوع للعُثْمَـانيين؛ نظرًا لفساد حكمهم وخروجهم على مبادئ الدين الإسْلَامي.
مراحلُ الثورة اليمنية ضد العُثْمَـانيين والظروف العالمية
يُذكُرُ مؤرِّخُ سيرة الإمام القاسم، بأنّ الثورةَ ضد العُثْمَـانيين مَرَّت بأربع مراحلَ (1597ـــ1635م) على مدى قرابة أربعين عامًا، الأولى إعلان الدعوة وخروجه من (شهارة) حجة إلى جبال (برط(، وأمَّا الثانية خروجه من برط، وانعقاد اتفاقية مع “سنان باشا” أحد القادة العُثْمَـانيين الكبار، ثم معَ الوالي العُثْمَـاني “جعفر باشا”، والثالثة خروجه على جعفر باشا بعد موت الوالي إبراهيم باشا، والرابعة خروجه على “محمد باشا” ويعقبها وفاةُ الإمام القاسم.
ويضيف مؤلفُ كتابُ “الفتح العُثْمَـاني في اليمن”، إلى جانب تلك المراحل الأربع، مرحلة أخرى والتي تمثل عهد “الإمام المؤيد” بن الإمام القاسم والذي تولى الإمامة بعد وفاة والده والذي على عهده خرج العُثْمَـانيون سنة 1635م. وإلى جانب تداعي اليمنيين إلى الثورة وتوحُّد موقفه، فقد لعبت متغيراتٌ خارجيةٌ دوراً في انتصار الثورة اليمنية ضد العُثْمَـانيين، منها ما يعودُ إلى ازدياد التناقُصات بين العُثْمَـانيين في اليمن، في صراعهم على الحُكم، وما رافقها من مؤامرات والدسائس ومكائد كانوا يحيكونها لبعضهم، إلا أن هذا الدورَ بدون توحُّد اليمنيين ما كان ليستطيعَ وحدَه طرْدَ العُثْمَـانيين فقد سخط عليهم اليمنيون وكرهوهم، أَكْثَر مما كرهوا بعضهم.
وفي سنة 1043هـ / 1633م تجدّدت المعارك بين الغُزاة العُثْمَـانيين واليمنيين، فقد حاول العُثْمَـانيون فَكَّ الحصار المضروب عليهم في الداخل، وقدمت سفينتان محملتان بالجنود العُثْمَـانيين للسيطرة على عدن، وباءت المحاولةُ بالفشل، وأرسل العُثْمَـانيون حملةً أخرى إلى (جيزان) ولكنها فشلت أيضًا.
الخلافاتُ الداخليةُ السبب في عودةُ الاحْتلَال الأجنبي
وما أن تمكن اليمنيون من طرد الاحْتلَال العثماني واستتب حكم الدولة القاسمية انذاك، إلا أن النزعة الاستعمارية والأطماع الشيطانية للمحتل لا زالت تتربص باليمن واليمنيون، منتظرة حالة ضعف أو خلاف داخلي للانقضاض عليه. واستغل المستعمر البغيض إلى أن ظهرت الخلافات الداخلية بين أقطاب السلطة الحاكمة آنذاك، وعمل على تغذيتها وإشعالها، لتقع بيد الاحْتلَال مرة ثانية كارتباط شَرْطي بين الغزو الأجنبي والعوامل الداخلية المواتية له.
الاحْتلَالُ العُثْمَـاني الثاني والمقاوَمةُ الوطنية
عقبَ افتتاحِ قناة السويس في القرن الثامن عشر، عادت أنظارُ الإمبراطورية العُثْمَـانية مجدّداً نحو اليمن، فدخلوا صنعاءَ مرَّةً ثانيةً سنة 1872 بقيادة “مختار باشا” الذي قام بالحد من تأثير مشايخ القبائل، وحَصَرَ نشاطَ الأئمة الزيديين، على ممارسة زعامتهم الدينية دون التدخُّل في الشئون السياسية، حيث شهدت تلك الفترة ارتفاع هائلاً في الضرائب التي كان يأخذها الاحْتلَال العثماني، ما استاءت الأوضاع وتفشى الجوع وشهدت البلاد عدة ثورات قامت بها بعض القبائل اليمنية منها ثورة الحدا وثورة قبيلة خولان، وقبيلة أرحب، وقبيلة حاشد، لكن الاحْتلَال العثماني أخمدها.
ومع شدة القمع والبطش الذي كان يمارسه الاحْتلَال العثماني لكنه لم يثن اليمنيون عن مواصَلة ثورتهم، حيث قامت ثورة يمنية جديدة ضد الاحْتلَال العثماني من (قفلة عذر) حاشد عام ١٨٩١م بقيادة الإمام محمد بن يحيى حميد الدين والذي استطاع محاصرة قوات الاحْتلَال العثماني داخل صنعاء، وكادت أن تقضي عليه، إلا أنها انتهت بتعزيز قوات الاحْتلَال العثماني بحملة جديدة لفك الحصار بقيادة (أحمد فيضي باشا) والذي استطاع فك الحصار عن صنعاء ودخولها من جديد.
وبعد وفاة الإمام محمد بن يحيى الملقب بالمنصور سنة ١٩٠٤م قام اليمنيون بهبة ثورية في طريق الاستقلال والحرية ضد قوات الاحْتلَال العثماني بقيادة الإمام يحيى بن المنصور مهدت لإجراء مفاوضات مع المحتل انتهت بعقد صلح بين الجانبين العُثْمَـاني واليمني سنة 1906 منحت الإمام يحيى صلاحيات واسعة على مستوى المحلي.
وواصل الشعب اليمني السير في طريقه الثوري المناهض لقوات الاحْتلَال حيث قام في ١٩١١ بمحاصرة قوات الاحْتلَال العثماني في صنعاء وبعض المدن اليمنية الأخرى بقيادة الإمام يحيى حميد الدين إلى وقع صلح دعان في ٩ أكتوبر ١٩١١ بين الشعب اليمني الثائر بقيادة الإمام يحيى حميد الدين وبين قوات الاحْتلَال العثماني ممثلة بالوالي (أحمد عزت باشا)، حيث نال الثوار من أبناء الشعب اليمني حريتهم واستقلالهم.
العدوانُ واستراتيجيةُ بريطانيا في التطويق البحري على العُثْمَـانيين في شمال اليمن
وفي مرحلة الصراع الثانية بين اليمنيين وبين العُثْمَـانيين في القرن التاسع عشر، كانت بريطانيا قد سيطرت بأساطيلها الحربية على البحر الأَحْمَــر، والخليج العربي، مما أعاق وصولَ إسناد عُثْمَـاني لقواتهم في اليمن التي أصبحت معزولةً عن العالم، واضطرت إلى عَقْدِ هذه الاتفاقية “صلح دعان”، والاستسلام تحت ضغط الحصار وضغط المقاومة اليمنية.
وبما يُشبه الحصار على العُثْمَـانيين في اليمن من قبل بريطانيا، نجد اليومَ بأن تحالف العدوان السعودي الأمريكي بعلاقته البريطانية الإسرائيلية، يفرض ذات الحصار على السواحل اليمنية، ويحاول الدخولَ من الحديدة والمخاء، كما فعل العُثْمَـانيون حين سيطروا على اليمن أول مرة.
الأغنيةُ التراثيةُ التركيةُ مرثية اليمن*
“اليمن مقبرة الغزاة”، ارتبطت هذه المقول بالأتراك؛ نظراً للعدد الكبير جداً من القتلى من قوات الاحْتلَال العثماني التي كانت تأتي إلى اليمن ولا تعود.. وهذه الأغنية تشير إلى ذلك.
الجو ليس فيه سحب فما هذا الدخان!
الحي ليس فيه ميت فما هذا الصراخ المتألم
مناطق اليمن تلك ما أقسى شدتها آهٍ
من هذه اليمن وردها عشب أخضر
الذاهب لا يأتي يا ترى ما السبب؟
ها هنا أغصان الخيزران، طريقها منحدر صعب
الذاهب لا يأتي يا ترى ما العمل؟
أمام الثكنة هناك صوت صراخ جندي
انظروا في شنطته يا ترى ماذا لديه
زوج أحذية وأيضاً هناك طربوش
آهٍ من هذه اليمن وردها عشب أخضر
الذاهب لا يأتي، يا ترى ما السبب؟
……………………
المراجع
كتاب: “الفتح العُثْمَـاني الأول لليمن 1538 ـــ 1635م “. للدكتور سيد مصطفى سالم الطبعة الخامسة نوفمبر 1999م، دار الأمين للطباعة والنشر، القاهرة جمهورية مصر العربية.
كتاب: “تحفة الأسماع والأبصار”. سيرة الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم.. للمؤرخ المطهر بن محمد الجرموزي، دراسة وتحقيق عبدالحكيم بن عبدالمجيد الهنجري.
*أغنية تُراثية شعبية تركية تحكي قصةَ مأساة الجنود العُثْمَـانيين في اليمن الذين يذهبون ولا يعودون وحزن أهاليهم عليهم، غنّاها الكثير من عمالقة الطرب التركي أمثال إبراهيم تاتلي سيس وَبولنت إرسوي. ترجم كلمات الأغنية، أحمد كوجكار أوغلو
صدى المسيرة| أنس القاضي