عن حياة اليمنيين في لبنان
أن تستعدَّ للاجتماع بشخص آتٍ من بلاد تنهض وتغفو على أصوات الحرب منذ أكثر من عام، قد يوحي لك تلقائياً بأنك ستؤدي دور المشفق والمواسي، ويخيل إليك أنّه وفي غمرة هذا الموقف ستخونك الكلمات، لتستدرك الأمر بالخوض في أحاديث ليست عن الوجع والفجائع السالخة من الأعمار، كل هذه الهواجس تهبط عن واجهة هذا المشهد لتحل مكانها انطباعات من نوع آخر، في أول اللقاء مع شاب يمني حط رحاله في لبنان.
لن يستلزم الأمر منك وقتاً طويلاً كي ترى في وجوده امتداداً لقوة اليمني الذي يواجه الموت في بلاده بصلابة غير معهودة.
قوة تظهر في تلك الابتسامة المشرقة على وجهه ووجوه أقرانه، ولعل هذه البشاشة سهّلت بدورها تكيّفهم في المجتمع اللبناني الذي يملك عاداتٍ مختلفة. ما عليك سوى القيام بجولة في الأماكن التي يقصدونها إن في الجامعة كطلاب، أو في مقاهي الحمراء وغيرها التي يرتادونها، أو في أماكن عملهم الحالية لتلحظ بوضوح كيف يتصرفون بكل هذه “العادية” اللافتة وبدراية منهم بكثير من الأمور ذات “الطابع اللبناني”.
وهذا ما يجمع عليه هؤلاء أنفسهم إذ يؤكّدون أنّ تكيّفهم لم يكن بالأمر الصعب على رغم قدومهم من مجتمع محافظ إلى حدٍّ كبير، فجزءٌ ممّا هو مباح هنا يعدّ من الخطوط الحمر هناك.
يكشف محمود، وهو مقدّم برامج في إحدى القنوات اليمنية التي تبثّ من لبنان، عن أنّ العامل الأساسي الذي دفعه للتكيّف السريع يتمثّل برغبته في اكتشاف الجديد. يقول: “منذ وصولي إلى لبنان بدأت أبحث في المتغيرات، فاكتشفت بدايةً أنّه يتوجب عليّ فهم الكثير من الكلمات اللبنانية لاستعمالها فمثلاً كلمة ماشي تعني في اليمني الرفض، لا القبول. الأمر نفسه بالنسبة لكلمة كفي فهي تعني توقف باليمني”.
يشير محمود إلى أنّه تطوع في الصليب الأحمر اللبناني لفترة جيدة، ما أتاح له فرصة التعرّف على الآخرين والغوص في نشاطات لبنانية بحتة. يقول: “هذا وأكثر تعلّمته بسرعة وكان أمراً ممتعاًُ نوعاً ما”.
وإذا كان هذا “الممتع” قد حصل باندفاع شخصي فإنّ محمود يؤكد من جهة ثانية أنّ ثمة تكيّفا يحصل بشكل طوعي أيضاً. يقول: “أيقنت أنّي لا أستطيع ارتداء الزي اليمني في لبنان كالمعوز (الجلباب) والجنبية (الخنجر الذي يوضع على الخصر)، والذي يصادر أصلاً في المطار. إذ قد أبدوا للآخرين في غاية الغرابة إذ ما رأوني به لذا اضطررت إلى ارتداء البنطال والقميص، كما هو متعارف عليه هنا”.
إلّا أن أحمد، وهو موظف في أحد التلفزيونات، يبدو أكثر ارتياحاً لفكرة التغيير في المظهر العام فالأمر بالنسبة له متعلّق بالحرية الشخصية وعدم التقيّد بزيٍّ معين. يقول: “ثمة حريّة أكبر في لبنان، استطيع أن أرتدي ما يحلو لي على الرغم من أنّ هناك اهتماماً مبالغا به أحياناً بالمظهر من قبل بعض اللبنانيين”.
يعزو الشاب قدرته على التكيّف إلى طيبة قلب من تعرف إليهم هنا، “اندمجت بطريقة عيشهم لدرجة أنّني نسيت شكل وطريقة الحياة السابقة”.
يشاطر حسام، وهو طالب جامعي، أحمد الرأي، فيقول إنّه استطاع تشييد جسر من التواصل والتأقلم بينه وبين الأشخاص الذين تعرّف إليهم، خصوصا في الجامعة. يقول: “تعلمت من رفاقي الدبكة، والأرغيلة، وأحببت الطعام اللبناني”. يشير حسام إلى أنّه تعرف على الأديان والطوائف التي لم يكن يعرفها من قبل بحكم غياب هذا النوع من الأحاديث في اليمن. هذا الانفتاح على أنماط جديدة من التفكير لم يخل في البداية من صدمات تلقاها. يقول: “لقد صدمني سؤال لم أكن أتوقعه: ما هي طائفتك؟ كان هذا السؤال أصعب من حل معادلة رياضيات معقدة”.
لم يختبر ماهر الأجواء عينها التي عايشها زملاؤه، فماهر يدرس في الحوزة الدينية في لبنان. لذلك حكمت اندماجه في المجتمع مجموعة من الضوابط. يقول: “استطعت التأقلم إلى حدٍّ كبير مع المستجدات الحياتية والمعيشية وحتى العادات والتقاليد، ولكن وفق ضوابط خصوصاً في ما يتعلق بمسألة الاختلاط بين الجنسين فهي من المسائل التي يتم التشدّد بها في اليمن”.
بحكم أنّ هذه المسألة بالتحديد هي من المسائل الحسّاسة في المجتمع اليمني كان يترتّب على الفتيات بعض الأمور التي تصنف من “الأعراف”. لكن لمحة بسيطة على أسلوب عيش الفتيات اليمنيات الموجودات في لبنان اليوم تعكس اختيارهن الانخراط في تفاصيل الحياة هناً بعيداً من الأعراف اليمنية. تقول ميثاق في هذا السياق إنّ “النساء اليمنيات محافظات خاصة في ما يتعلق باللباس. عندما أتيت إلى لبنان كنت أرتدي العباءة اليمنية ولكنّي تعرضت مرّة للسرقة، فقررت ارتداء اللباس المتعارف عليه هنا”.
تؤكد ميثاق مسألة الانفتاح التي كانت غائبة نوعاً ما، بحكم الفصل بين الجنسين في مدارس والجامعات في بلدها. تقول: “تعرفت إلى زميلات وزملاء لي في الجامعة، وأيضاً في العمل. تشاركنا الكثير من النشاطات، ومع الوقت تغيّرت نظرتي إلى الأمور قليلاً”.
تسكن ميثاق ورفيقاتها القادمات من اليمن معاً، الداخل إليهن سيشم رائحة البخور اليمني التي تعبق بالمكان كعادة يمنية أصيلة يحافظن عليها، علّهن يبقين اليمن سعيداً في مخيلتهن على الأقل.