لهذا أشعلت حكومة هادي الجبهات
دخلت الأزمة اليمنية فصلاً آخر من التعقيد والتصعيد السياسي والعسكري على حد سواء، وذلك بعد وصول المساعي الأممية بشأن السلام إلى طريق مسدود، واتضاح أبعاد إعلان وزير خارجية أمريكا، جون كيري، مبادرة بدت أنها مجرد تسجيل موقف ليس إلا، موقف أراد به المسؤول الأمريكي إثارة انتباه العالم للدور الذي ظل يلعبه كشخصية مهمة ومؤثرة.
إعلان كيري تحول من بطولة إلى هزيمة، وفق مراقبين، وذلك على المستوى السياسي والشخصي للرجل، في حين إعلانه تحول إلى ورقة تصعيد لدى الأطراف اليمنية التي كثفت من أعمالها العسكرية، لتعلن تشبثها بوجودها وبقائها في المشهد.
وفيما ينتظر تحديد ساعة بدء سريان مفعول الاتفاق، الذي أبرم بين جماعة “أنصار الله” و”التحالف” الذي تقوده السعودية، استمرت المواجهات في شرق تعز، وفي ميدي على ساحل البحر الأحمر، وفي محافظتي الجوف ومأرب، وقتل العشرات وجرح مثلهم في هذه المواجهات.
إعلان كيري أزعج حكومة الشرعية التي شعرت بتهميش وتجاهل لها، خصوصاً وأن كيري قال في إعلانه إن الاتفاق تم بين “أنصار الله” وبين قيادة “التحالف العربي” الذي تقوده المملكة العربية السعودية.
إلى جانب ذلك، جاء اعتذار الخارجية الأمريكية للرئيس هادي داعماً لموقف فريق الشرعية، بل كشف هذا الاعتذار عن حقيقة الخطوة التي قام بها كيري صراحة، وأنها كانت مجرد مسرحية ومادة إعلامية فقط، والدليل على ذلك أيضاً هو عدم تحقيق أي وقف لإطلاق النار الذي كان يفترض أن يبدأ أمس الأربعاء، طبقاً لتصريحات كيري.
العميد أحمد عسيري، الناطق الرسمي باسم “التحالف العربي”، نفى هو الآخر أن يكون هناك اتفاق بين الرياض وبين “أنصار الله” بشأن وقف إطلاق النار، مؤكداً استمرار “التحالف” في القتال والقصف، كذلك الأمر بالنسبة للحكومة اليمنية التي أعلنت عدم إيقافها لإطلاق النار، إذ أعلن وزير الخارجية، عبد الملك المخلافي، أن الحكومة لن تلتزم بالاتفاق، لأنها لم تكن طرفاً فيه. وقال إنها قررت تغيير المعادلة على الأرض وحسم المعركة في تعز، قبل أن يعود للقول إن الجانب الأمريكي أبلغهم أن اتفاق مسقط هو التزام بتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي وُقع في العاشر من أبريل الماضي.
من جهته، قلل المتحدث باسم “أنصار الله”، محمد عبد السلام، من قوة الاتفاق الذي تم برعاية عمانية، وقال إن مبادئ اتفاق مسقط “عامة وليست تفصيلية”، وإن “التفاصيل ستوضع للنقاش، الذي يُفترض أن يبدأ خلال مشاورات السلام أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري”؛ مشدداً على ضرورة أن “يكون النقاش واضحاً في فترة زمنية محددة، تنتهي بإيجاد حل سياسي”.
وعن أسباب التفاوض مع الولايات المتحدة عبر سلطنة عمان، وليس مع السعودية أو الجانب الحكومي، قال إن الأمريكي هو الذي يتحمل المسؤولية التاريخية والأخلاقية “بعدوانه” على اليمن، بغض النظر لماذا يريد أن يوقف هذه الحرب.
وأضاف عبد السلام أنهم يدركون أن الجانب الأمريكي هو من يقود هذه الحرب، وهو من يمثل السعودية والإمارات ومن يدور في فلكهما، موضحاً أنهم عندما جلسوا مع الأمريكيين فإنهم جلسوا بوجود الوسيط العماني كضامن ومراقب. وسأل: “هل نجلس مع أدوات لا يعلمون ولا يعرفون ماذا يدور ولا بيدهم شيء! لم يعرفوا عن إعلان الحرب على اليمن، ولا يعرفون ما هي التفاصيل، وليس لديهم أي دور، لا عسكرياً ولا سياسياً، هذه مضيعة للوقت”.
من جهتها، قالت الأمم المتحدة إنها بحاجة إلى تحديد موقف الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، من وقف إطلاق النار الذي كان يُفترض أن يبدأ سريان مفعوله الخميس، رغم تلقيها إشارات ايجابية وموافقة السعودية وغيرها، إضافة إلى أطراف يمنية.
إذاً يبقى السؤال الآن: ماذا بعد إعلان كيري؟ وإلى أين سيتجه اليمن في ظل التصعيد العسكري والتصعيد السياسي للأطراف، في ظل صمت المبعوث الأممي، إسماعيل ولد الشيخ أحمد، الذي صمت وصمت معه مجلس الأمن وبقية الفاعلين والمؤيدين لخطته الأممية؟
المشهد يبدو ضبابياً، ولا مؤشرات لحدوث سلام قريب في ظل هذا التوتر واحتدام المعارك مجدداً بين الأطراف المتصارعة. المحلل السياسي، خالد بقلان، وفي حديثه إلى “العربي”، يعرب عن اعتقاده بأن “مساعي السلام لن يكتب لها النجاح، لأنها كمضمون يتعامل مع القضية اليمنية بمثالية، بعيداً عن الواقع المرير المتمثل في غياب حقيقي لمعنى الدولة اليمنية القوية، دولة المواطنة والقانون التي تمثل حلاً حقيقياً للمشكل والقضية اليمنية بشكل عام، لذلك تظل كل الخيارات مطروحة، وأكثرها حضوراً هو استمرار الحرب، في ظل تعدد المشاريع السياسية، وإن تغنت بالوطنية إلا أنها بعيدة كل البعد وغير جديرة بأن تكون نواة للمشروع الوطني، لأسباب من ضمنها أن اليمنيين كقوى سياسية ونخب ومراكز نفوذ لهم ارتباطاتهم الإقليمية والدولية”.
ويرى بقلان أنه “رغم ذلك كله، تظل الشرعية اليمنية بقيادة هادي هي المعبر عن تطلعات الشعب، رغم ما يرافقها من أخطاء وسياسات غير مجدية، وهذا يتطلب منها أن تستمد قرارها من خلال حضورها في الوسط الجماهيري والشعبي داخل اليمن، أما الاستمرار في المناورات السياسية من خلف الحدود فإنه يعني رهن البلد لحسابات سياسية واقتصادية لدول الإقليم التي فشلت في تعاملها مع الملف اليمني كقضية إنسانية تبلورت كنتاج لغياب دولة المؤسسات الوطنية”.
يبدو أن الخيار العسكري الآن يأخذ المساحة الأكبر من التصعيد على الأرض، حيث لا تزال المعارك مستمرة بصورة عنيفة في مدينة تعز، ويعتقد سياسيون أن الحكومة اليمنية هي من تَحرّك على هذا التصعيد، ظناً منها أنها ستضغط على المجتمع الدولي من أجل تعديل التسوية والخارطة الأخيرة، وأن “أنصار الله” ستخضع لشروط الشرعية وما تريده، من خلال الاتفاق الذي يجب أن يتم، لكن السؤال: هل ستتمكن الحكومة من ذلك؟ وهل هدف الحكومة مرتبط فعلاً بالمشروع العام للسلام؟ وأنها حريصة على ذلك؟ أم أن هناك أبعاداً سياسية أخرى تقف خلف هذه الصورة، ومن ضمنها الخوف على البقاء في السلطة بعد أي اتفاق؟
متابعون يرون في هذه النقطة أن الجانب الدولي طوى صفحة هادي وحكومته، وهم قلقون من أن تتفكك جبهاتهم بسبب هذه التصريحات ويخسروا الورقة التي يمكن أن تضمن لهم حصة مناسبة في السلطة.
ويلفت هؤلاء، في حديثهم لـ”العربي”، إلى أن “حزب الاصلاح” يدرك أنه أكثر طرف خاسر من التسوية، التسوية قائمة على إقصاء “الاصلاح” وتقليص حضوره إلى الفتات، لهذا قام الأخير بإشعال الجبهات من أجل فرض واقع مختلف يضغط من خلاله على الجانب الدولي كي يعيد حساباته بالتسوية، ومنح “الاصلاح” حصة تناسب حجمه، والمشكلة أن الجانب الدولي ضد “الاصلاح” كما يرجح هؤلاء، لذا تتقلص التوقعات بانفراجة قريبة. ربما، وفق المصادر، ستشهد الحدود هدوءاً، لكن “الاصلاح” يرى أن هذه معركة مصيرية، وكيري عندما يقول “الحوثيون والسعوديون اتفقوا” يعني أن الأمر حسم، وأيضاً بحسب المصادر.
إذاً يبقى المشهد اليمني محل تجاذب مستمر من قبل الأطراف، ويبقى التصعيد الحاصل مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالمكاسب، وما تتمسك به الأطراف من مواقع النفوذ، لا أقل ولا أكثر، والشعب اليمني هو الضحية، وهو من يدفع الثمن من أجل هذه الأفكار والمصالح الضيقة التي ظلت وما زالت تضحّي به على مدار عشرين شهراً.