كل ما يجري من حولك

البردّوني.. حضورٌ متجدِّدٌ في قضايا الشعب والوطن

1٬700

 

(قراءةٌ في قصيدة الغزو من الداخل)

عبدُالله البَردوني الشاعرُ التقدّمي اليمني، الفقير الذي كان أبواه “يتشاكيان من الطوى شكوى الغريق إلى الغريق”، مَن تسلّل إلى منزله لص فلم يجد ما يسرقه! هذا الشاعر الذي عاش مع الكادحين، مع جماهير الشعب ملتزماً ومتبنياً لقضاياهم، وتطلعاتهم، السياسية والاجتماعية، قضايا الاستقلال والتحرّر والعدالة والثقافة، المبدع الخلاق للبنية اللغوية والمجازية والموسيقية للشعر.

نرى في شعره استشرافاً للمستقبل بما يُشبه النبوة المحققة! هذه المَقدرة المدهشة هي امتلاكُ الوضوح أتت عاكسةً لمعرفته الاجتماعية وموقفه الثوري من الواقع، في الظروف التأريخية العالمية واليمنية، التي عاشها والتي طوَّر فيها عبقريتَه وعكس التعبير الوجداني للحس الطبقي الوطني الرفيع بأنساق شِعرية تسلب مُهجةَ القارئ، بجدلية ربطه بين الواقع والماضي، حيث أنّه كمؤرّخ كبير كان ذا فهم علمي جَدَلي بتأريخ الشعب اليمني وتجاربه الداخلية وتجاربه مع مملكة بني سعودي، بتلمُّس سياقاتها وطرُق تحَـرّكها والقوانين الداخلية المولدة لها.

وكشاعرٍ تقدمي قام بتطوير شاعريته في اتساق مع قضايا الجماهير والوطن، كُلُّ هذه الخواص الذاتية الخَاصَّـة والعامَّة، من تأريخ وفلسفه وثورية ووطنية وعبقرية وجدانية، جعلته يُدرك بوضوح ما ستؤول إليه الأمور، وفي قصيدة “الغزو من الداخل” تتجلى عبقريته في أشفّ أشكالها، إذ نقرأ ما نعايشه اليوم، في مواجهة العُـدْوَان والمرتزقة.

يبدأ البردوني قصيدتَهُ مستنكراً من جهل الواقع ومن عدم تحَـرّك مَن وعوا هذا الواقع، فهو أفظع من الجهل، مخاطباً صنعاء رمز الدولة اليمنية طارحاً عليها السؤال الذي تعلم إجابته، ومجيباً عن سؤالهِ:

فظيعٌ جهـلُ مـا يجـري وأفظـع منـه أن تـدري                  وهل تدريـن يـا صنعـاءُ مَـن المستعمـر السـري؟!

غــزاةٌ لا أشـاهـدُهـم وسيفُ الغزو في صـدري        فقـد يأتـون تبغـاً فــي سجائـرَ لونُهـا يـُغْـرِي

وهذا هو الغزو الخفي الاستعمارُ الجديد للعولمة الرأسمالية الامبريالية في الهيمنة واستغلال ثروات الشعوب وكياناتها، هذا الاستعمار رغم اختلاف أشكاله إلا أن المواطن يُحس به وآثاره المميتة كسيفٍ مغروس في الصدر، يقول البردوني في حديث عن أحد أشكال الغزو “وقد يأتون تبغاً في سجائر لونها يُغْري”، وهذا النوع من الهيمنة الاحتكارية كان سائداً في اليمن، فجاءت ثورة 21سبتمبر نتيجة لآثاره وتحَـرّكاً واعياً لطلائع الشعب في مواجهته، فهذا الغزو تلخص لدى الشَعب في تسؤل لماذا لا نأكل مما نزرع ونصنع، وإن لم يُجِبْ البسطاء على السؤال، إلا أن الإجَابَة هي أن الاحتكارات الامبريالية الهيمنة على سياسة الدولة هي التي منعتنا، والثورة الشعبية والصمود اليماني حتى اليوم بعد أكثر من 500 يوم هي الإجَابَة العملية عن هذا الاستفهام الشعبي لماذا لا نزرع لماذا لا نصنع ولماذا نحن جياع!.

وفـي صدقـات وحـشـي يُؤَنْسِنُ وجهَـه الصخـري      وفي أهـدابِ أنثـى فـي مناديـل الهـوى القهـري

وهذه الصدقاتُ والقروض والمِنح هي أحد أشكال الاستعمار الجديد، تصدير رؤوس الأموال إلى هذه الدول والسيطرة على قطاعات الإنتاج بفتحها فروعاً للشركات الاحتكارية الخارجية، وكذا القروض المشروطة، والابتزاز بسحب المنح والأموال المتروكة في البنوك، والتهديد بالتوقف عن دفع دعم الموازنات، وغيرها الكثير من أَسَاليب الهيمنة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه الصدقات الاستعمارية، إضافةً إلى البُعد الآخر لهذه المنح وهوَ دعم منظمات المجتمع المدني الغربية التي تجزء القضية الوطنية لدى الجماهير إلى قضية شباب وقضية مرأة وقضية مهمشين وفضية التعبير عن الرأي… إلخ، فتجزء وحدة النضال الشعبي وتشتت الجماهير وخَاصَّـة الشابة منها وتفسدها وتعزلهم عن الكادحين بالإنفاق الخيالي على الورش والندوات التي تقيمها، وتحلل لهم جذور هذه القضايا بتفسيرات مثالية غير واقعية، لا توصلهم إلى حلول جذرية لهذه القضايا الاجتماعية، أما النوعُ الآخر من الاستعمار الجديد عبرَ هذه الصدقات هي دعم الجماعات الوهابية على القوى التقدمية، وتأبيد الفقر في ربطهم بصدقات الجمعيات الخيرية وعدم تمكينهم من وسائل الإنتاج.

وهذه الصدقات عبثاً تؤنسن الوجوهَ الصخرية للقوى الامبريالية الاستعمارية العالمية أَوْ القوى الرجعية الخليجية ركائز الاستعمار في المنطقة. حتى الهوى بمعنى العشق هذه العاطفة الإنسانية في ظروف الحياة غير الإنسانية تصبح عُرضةً للاستغلال والكبت والقهر.

وفـي ســروالِ أُسـتـاذ وتحـتَ عمامـة المقـري         وفي أقراص منـع الحمـل وفـي أنبـوبـةِ الحِـْبـرِ

وفـي حـريـة الغثـيـان وفـي عبثـيـة العـمـر   وفي عَود احتـلال الأمـس فـي تشكيـلـه العـصـر

هذا الغزوُ الجديدُ غزوٌ في جوهره لا يُفرق الشكل الذي يُقدم فيه، فقد يتبناه فكرياً وسياسياً، أستاذ جامعي بسروال حديث، أَوْ فقيه تقليدي يلبس العمامة، ونحن لا نجد فرقاً بين من يفلسف التدخل الخارجي من دعاة الثقافة وبين من يفتي بجوازه أَوْ يصمت عنه. فيما تأخذ انبوبة الحِبر مختلف الأشكال الدعائية الإعْلَامية والثقافية من العدو وكذا احتكاره لها.

إحتلال الأمس عاد بشكل عصري، سواء بثقافة العولمة والاستهلاك والترويج للنموذج الغربي الذي يصل إلى الإقرار بحق هذه الدول التي تدّعي الحداثة باستعمارنا، أَوْ بعودته عن طريق الهيمنة الاقتصادية، وحتى العودة القديمة بشكله العسكري أَصْبَحت واردةً ونحن نراها في الشطر الجنوبي من الوطن.

 

ترقـى العـارُ مـن بيـع إلى بيـع بــلا كـفـن   ومـن مستعـمـرٍ غــازٍ إلى مستعمـر وطـنـي

وهكذا هي الركائز الاستعمارية قوى الارتزاق تبيع البلاد بل ثمن، وتدّعي الوطنية، وتلبس الغزو شكلاً وطنياً بزعم الشرعية والديمقراطية!

يمانـيـون يــا(أروى) ويا (سيف بن ذي يزن)                  ولـكـنـّا برغمـكـمـا بـلا يُمـن بــلا يـَمَـنِ

وفي استدعائه لرموز أروى بنت أَحْمَد الصليحي، رمز اليُمن الرفاه والوحدة والتنمية، وسيف بن ذي يزن رمز الكفاح والتحرير، إنما يُخاطب أروى وابن ذي يزن في الشَعب، يستنهضهم في الشَعب فلم يأتوا ولم يأتوا سوى من هذا الشَعب، بمعنى أن التحرر الوطني والاستقلال والوحدة والتنمية، هي مهام ملحةٌ على الجماهير اليمنية أن تنجزها وهي أهدافٌ واقعية ممكنة التحقيق، وما حربُ التحرير الشعبية في مواجهة العُـدْوَان إلا انبعاث هذه الأساطير من التأريخ إلى الواقع، في صمود امرأة تقدّم الشهداء وتربي الرجال على الثورة، وفي صمود المقاتلين في جبهات ما وراء الحدود.

 

بـلا مــاضٍ بــلا آتٍ بـلا سـر بــلا عَـلَـنِ    أيا (صنعاءُ) متى تأتين؟ مـن تابـوتـك العـَفِـنِ

نعم كان هذا هوَ واقع صنعاء، التي أختفى عنها الماضي الثوري، والآتي التقدمي، فلا نضال علني ولا نضال سري، أشبه ما تكون في تابوت عفن، تساءل البردوني متى تأتي من هذا التابوت العفن متى تأتي منه إلى مستقبل حر، وها هي صنعاء تأتي اليوم إلى المستقبل المُشرق، وتأتيها الأنظار من مختلف البلدان كعاصمة للمقاومة والصمود والتحرر.

 

أمير النفـط نحـن يـداك نـحـن أحــد أنيـابـك ونحـن القـادة العطشـى إلى فضـلات أكـوابـك

ومسئولون في (صنعاء) وفراشـون فــي بـابـك       ومـن دمنـا علـى دمنـا تموقـع جيـش إرْهَابِـك

لقد جئنـا نجـُرُّ الشعـبَ فـي أعـتـاب أعتـابـك          ونأتـي كُلَّ مـا تهـوى نمسـح نـعـلَ حجـابـك

ونستـجـديـك ألـقـابـاً نتـوجّـهـا بألـقـابـك       فمُرْنَـا كيفمـا شــاءت نوايـا لـيـلِ سـردابـك

نعـم يـا سيـدَ الأذنـاب إنّــا خـيـرُ أذنـابــك    فظيعٌ جهـلُ مـا يجـري وأفظـع مـن أن تـدري

صورةٌ دراميةٌ سينمائية بليغة لحال الخونة والعملاء، وهم أحدُّ أنياب بني سعود وها هي تستخدمهم في الدفاع عن مواقعها بعد عجز جنودها عن القيام بذلك، هذا حال المرتزقة وهم يقدمون طقوس العبودية والتسبيح بأمير النفط السعودي، عدو اليمن التأريخي من 38 باحتلال أراضينا وفي 68 بالانقلاب على الجمهورية، واستمراره بدعم القوى الاستبدادية والرجعية بشكلها التقليدي أَوْ الحداثي!

فها هُم من مسؤول في صنعاء، كانوا رئاسة جمهورية ورؤساء أحزاب وحكومة ووزراء، يتحولون على مرأى الشعب إلى فراشين في أبواب قصور الخليج، ومن دم الشَعب يموقعون لجيش الإرْهَاب العُـدْوَاني، وعلى جثث الشعب وركام المنازل والمصانع يشتهون أن يدخل العدو على صنعاء!

يريدون أن يجروا له الشعبَ عبيداً إلى قصر الدرعية، يمسحون جرائمَه بلافتة الشرعية، ويلبسونه لقبَ المحرر والثائر، مُسَلّمين له أن يأمرَه بالقيام بأكثر الأَعْمَـال قذارة تلك الأَعْمَـال التي نواياها نوايا مَن يسكنون السراديب المظلمة.

كم هوَ فضيعٌ جهلُ ما يجري من أمورٍ لم تعد بذلك الخفاءِ والشبهة، عُـدْوَانٌ واضح في أهدافه واضحٌ من ممارساته، فاضحٌ من جرائمه، وكان فضيعاً أن ندري ولا نتحَـرّك، إنما اليوم يا شاعرَنا البردوني لم يعد فضيعاً أن ندري، فنحن نتحَـرَّكُ من هذه المعرفة للمواجَهة المصيرية.

You might also like