كل ما يجري من حولك

أَهَميَّة بناء الإنْسَـان أولاً!

442

 

أحمد ناصر الشريف

ليست العبرةُ في تشييد البناء وإنما العبرة في المحافظة على البناء واستمراريته لاسيما فيما يتعلق ببناء الإنْسَـان الذي بدون عقله الواعي لا يمكن أن يشاد البناء وتصنع الحضارات.. ولو توقفنا قليلاً أَمَـام وضعنا في اليمن وتَحَـدِّيدا خلال الخمسة العقود الأخيرة التي يتفاخر البعض بها بأنها ادخلت اليمن إِلَـى العالم المترامي الأطراف بعد أن ظل معزولاً حسب زعمهم وَإن كان التأريخ يكذب هذه المقولة التي فيها الكثير من التحامل وعدم الانصاف.. إن أكثر من ثلاثة عقود مرت على اليمنيين وحكامهم مشغولون ببناء الحجر على حساب بناء البشر.. ونعتقد أن الوقت الآن قد حان لنركز فيه على بناء الإنْسَـان ونعوض اليمنيين ما حُرموا منه في الماضي.. المباني التي شيّدناها خلال الثلاثة العقود الماضية واهتممنا بها؛ لأن من وراءها مصلحة شخصية كافية لتغنينا عن تشييد المزيد منها لعقود قادمة ولا تحتاج فقط إلا إِلَـى رفدها بالعقول القادرة على الخلق والابداع متمثلين ما قاله الشاعر:

قُم للمعلم وفّه التبجيلا

كاد المعلمُ أن يكونَ رسولا

أعلمت شرفاً أجلّ من الذي

يبني أنفساً وعقولا

ولم يقل يبني أحجاراً وقصوراً.

لقد همشنا التعليم خلال فترة طويلة من تأريخ اليمن الحديث وجهلنا الجيل الجديد.. فلا هو حافظ على أميته ليفكر بفطرته التي خلقه الله عليها ولا صار جيلاً متعلماً قادراً على العطاء وإنما تم مسخه بين هذا وذاك لأن الحكام – سامحهم الله – أرادوا له أن يكون كذلك لتسهل قيادته وتطويعه.. من يصدق أنه بعد أكثر من نصف قرن على قيام الثورة اليمنية (سبتمبر واكتوبر) لم يتربع على سدة الحكم في اليمن لا رئيس جمهورية ولا نائب رئيس ولا رئيس مجلس نواب ولا رئيس مجلس وزراء ولا حتى وزير خارجية من الذين تعلموا في عهد الثورة والجمهورية سواء في الشمال أَوْ الجنوب سابقاً أَوْ في عهد ما بعد إعادة تحقيق الوحدة المباركة.. بل أن الذين مازالوا اليوم في المراكز القيادية العليا هم من أولئك الذين تعلموا في عهد حكم بيت حميد الدين الذي استمر 43 عاماً ومن الذين تعلموا في عهد الاستعمار والسلاطين.. وهذه حقيقة قائمة لا يستطيع أحد أن ينفيها لأنها تعبر عن نفسها وتمثل واقعاً يترجم الوضع الذي نعيشه.

كانوا يقولون على الإِمَـام يحيى حميد الدين رحمه الله أنه متحجر وبخيل ومع ذلك فقد بدأت البعثات الدراسية إِلَـى الخارج في عهده وحسب من أرّخوا لتلك الفترة فإن اول بعثة طيران ذهبت إِلَـى إيطاليا لتعلم الطيران في الوطن العربي كانت من اليمن عام 1926م وبالنسبة لما عُرف ببعثة الأربعين التي توجهت إِلَـى لبنان للدراسة عام 1947م وتوزعت بعد مقتل الإِمَـام يحيى في عدة دول هي: مصر وإيطاليا وفرنسا وأَمريكا فقد عاد اعضاؤها إِلَـى اليمن بعد التخرج وبعضهم يحمل شهادة الدكتوراه وتحولوا بعد الثورة إِلَـى وزراء ومسؤولين كبار وتم تعيين منهم ثلاثة رؤساء حكومات هم: الأساتذة عبدالله الكرشمي ومحسن العيني وحسن مكي.. أما البعثة العسكرية التي ذهبت إِلَـى بغداد فقد انتجت لنا اول رئيس جمهورية في اليمن هو المشير عبدالله السلال رحمه الله ورئيس وزراء الفريق حسن العمري وقادة عسكريين كباراً مثل اللواء حمود الجائفي وللواء عبدالله الدفعي واللواء عبدالله الضبي واللواء عبدالله جزيلان والأستاذ احمد المروني وغيرهم رحمهم الله جميعاً.. بل أن الذين تعلموا في الجامع الكبير والمدرسة العلمية في عهد الإِمَـام يحيى تحولوا بعد الثورة إِلَـى زعماء وعظماء بأعمالهم مثل القاضي عبدالرحمن الارياني والقاضي محمد محمود الزبيري والأستاذ احمد محمد نعمان والقاضي عبدالله الحجري، رحمهم الله وكذلك الدكتور عبدالرحمن البيضاني الذي اعتمد له الإِمَـام أحمد حميد الدين منحة لمواصلة الدراسة الجامعية في القاهرة وعاد إِلَـى اليمن بعد التخرج ليعمل مع نظام الإِمَـام أَكْثَر من عشر سنوات وبعد الثورة عين نائباً ًلرئيس مجلس قيادة الثورة ونائباً لرئيس الوزراء.

وكانوا يقولون إن الإمام أحمد طاغية ومع ذلك فقد فتحت في عهده الكليات العسكرية وتضاعف سفر البعثات الدراسية إِلَـى الخارج ويكفي دليل أن الضباط الأحرار الذين فجروا ثورة 26 سبتمبر ضد حكم الائمة كلهم كانوا خريجي كليات من داخل اليمن وخارجها.. وكذلك من فجروا ثورة 14 اكتوبر اغلبهم شباب متعلم.. أنا لا أدافع هنا عن عهدي الائمة والاستعمار والسلاطين حينما استشهد برجال تعلموا في عهدهم واستفادت اليمن منهم في العهد الجمهوري لأنه لا توجد مقارنة بين مانحن عليه اليوم وكيف كنا في تلك الفترة وَإن كان الوضع حينها في منطقة الجزيرة والخليج متقارباً ولا يوجد أحد أفضل من الآخر بفارق أن هناك من الحكام من انفتح على الخارج واستقدم الشركات الأجنبية لاستخراج الثروة من باطن الأَرْض لتدر حليبا على تلك الشركات والدول القادمة منها.. وهناك من انغلق تحفُّظاً وخوفاً من الاستعمار الأجنبي ولكنه حافظ على ثروة الشعب في باطن الأَرْض ولم يستخرجها وينهبها كما يحصل اليوم.

إن الهدف من مقالي هذا هو الإشارة إِلَـى واقع التعليم وكيف كان قوياً في فترة ما قبل الثورة رغم محدوديته وندرة إمْكَانياته وكيف حاله اليوم رغم توسعه وسهولة تلقيه بفضل ما أدخل عليه من وسائل حديثة.. لكن مع الأسف الشديد خريج الجامعة اليوم لا تعادل معلوماته وخاصة فيما يتعلق بالتأريخ والتربية الوطنية وعلوم الدين الصحيحة وإتقان الخط والاملاء ما يعادل معلومات خريج المدرسة الابتدائية في عهد ما قبل الثورة.. ولذلك لم يصعد أحد منهم إِلَـى سدة الحكم أَوْ حتى يشغل منصباً في المراكز القيادية العليا التي أشرنا إليها آنفاً.

وهذا يؤكد ما سبق وقلناه في مقال سابق عن أمية المتعلمين وَأن طالباً جامعياً سأل القاضي العلامة محمد اسماعيل العمراني أمد الله في عمره: لماذا يا قاضي محمد لا نتقن العلم مثلكم؟ فرد عليه القاضي العمراني قائلاً: نحن تعلمنا في الجامع وأنتم تعلمتم في الجامعة وليس الذكر كالأنثى.

You might also like