حساباتُ الربح والخسارة في مفاوَضات الكويت.. قـراءَةٌ عن كثب!
الكويت/ عبدالله علي صبري:
تدخُــلُ مفاوضاتُ السلام اليمنية بالكويت الأسبوعَ الرابعَ، وما زالت الأطرافُ متباعدةً في رؤيتِها للحل السياسي والمعالجات الأمنية المُفضية إلى وقف العدوان ورفع الحصار واستئناف العملية السياسية بصيغتها التوافُقية والتشاركية.
بيد أن صمودَ وقف إطلاق النار –رغم الخرُوقات المحدودة- قد منَحَ المفاوضات درجةً كبيرةً من الجدية مقارنةً بالمشاورات السابقة، خَاصَّةً أن اليدَ ضغطت على الزناد في الوقت المناسب، بإطلاق صاروخ باليستي صوبَ الأراضي السعودية، لتُدرِكَ الرياضُ عملياً أنها ليست بمنأىً عن الخسائرِ في حال استمر العدوان وانهارت المفاوضات.
إضافةً إلى ذلك فإن الأجواءَ والمناخاتِ واللقاءاتِ الديبلوماسية التي تجري في ظلها المفاوضات، تؤكد أن الرُّعاة الدوليين والإقليميين للحرب وللحل، باتوا على قناعة بضرورة نجاح مفاوضات الكويت، وإن كانوا يتوخّون نتائجَ تصُبُّ لصالح ما يسمونه بالحكومة الشرعية.
الجانبُ الكويتي يبذل من جهته جهوداً معقولة لضمانِ سير المفاوضات، وإن كان يخشى من ردَّةِ فعل سعودية حيالَ أي اختراق لصالح الطرف الوطني، إلّا أن هذا الاختراقَ قد يكون هو المطلوبَ أمريكياً؛ بهدف إنقاذ السعودية من ورطتها.
مؤشراتٌ وتداعياتٌ مزعجة
وبالتوازي مع سير المفاوضات، برزت أحداثٌ ساخنة في المحافظات الجنوبية، بدءاً بمسرحية تطهير حضرموت من عناصر القاعدة، مروراً بانتهاك القوات الأمريكية لسيادة البلد، ووصولاً إلى حملة التهجير المناطقية لأبناء الشمال في عدن، الأمرُ الذي ألقى بثقله على المفاوض الوطني، وهو يرى أن مثلَ هذه التحركات تتجهُ إلى سوق الأمور نحو القبول بالأمر الواقع في الجنوب وتكبيل القوى الوطنية عن تلافي هذه التداعيات وسط تواطؤ النخب الجنوبية ذاتها.
وإذ يتعرَّضُ الوفدُ الوطني لضغوطٍ من الداخل نتيجة هذه التداعيات، فإن الحساباتِ المنطقية تجعلُه متمسكاً بالحل السياسي، باعتباره المدخلَ الأنسبَ للحد من تفاقم ما يحاكُ تجاه اليمن من مؤامراتٍ مفزعةٍ قد تقودُ إلى احتلال وانفصال الجنوب، خَاصَّةً وأن سيرَ المواجهات الميدانية في الأشهر الأخيرة، منح العدوان والغزاة مسرحاً حراً للتحرك في عدد من المحافظات الجنوبية، التي استنفر أهلها ضد أبناء جِلدتهم في الجيش واللجان الشعبية، بينما يتعاملون بشيء من الترحيب مع الغزاة الأجانب.
فوقَ ذلك يجدُ المفاوِضُ الوطني نفسَه محاصراً بتداعيات إنسانية واقتصادية وأمنية واجتماعية، خلّفها العدوان والحصار، وتحتاج إلى معالجة سريعة من خلال التهدئة التي يحتاج إليها اليمنيون، للخروج من عُنق الزجاجة، مع إدراك أن المجتمعَ الدولي لم يأبه أو يكترثْ للأوضاع الميدانية المتفاقمة في اليمن، ولولا صمود شعبنا وانتصاراته لما رضخت الرياض واستكانت دول العدوان، في فرصة يحرص الوفد الوطني على استثمارها لمعالجة هذه التداعيات.
فمن منطلق الحرص والمسئولية الوطنية يجد المفاوض الوطني نفسه مسئولاً عن الأوضاع الإنسانية لشعبنا المحاصر اقتصادياً، وعن حالة الآلاف من المشردين والنازحين، وأمثالهم من الجرحى، والأسرى والمفقودين، وذلك على عكس مرتزقة الرياض الذين اشتراهم الشيطان، فأعمى أبصارهم وألبابهم.
المفاوض الوطني يجد نفسه مسئولاً أيضاً عن حماية السلم الاجتماعي، والحدّ من تداعيات الورقة الطائفية التي يلعب عليها العدوان، في إطار التهيئة لانفصال الجنوب وتقسيم البلد إلى أقاليم ذات هوية مذهبية، وذلك على عكس أدوات العدوان الذين لا يهمهم سوى العودة إلى السلطة والحكم.
يفاوض وفدُنا وهو معنيٌّ بضمان سيادة الوطن واستقلاله، وسحب الذرائع التي يستخدمها العدوان في انتهاك أراضي الوطن، واحتلال أجزاء منها، ومصادرة القرار السياسي الذي سلمته (الحكومة الشرعية) للسعودي والأمريكي دونما خجل أو وجل. وهو إلى جانب ذلك يجد نفسه محاصرا بحرب إعلاميه قذرة جعلت القريب قبل الغريب مترددا في التعاطي مع مظلومية شعبنا، والتعرف على حقائق ما يحدُثُ على الأرض، بعيداً عن رواياتِ القنوات الكاذبة والمضللة.
رؤيةٌ مسئولةٌ وطنياً وتأريخياً
يدركُ الوفدُ الوطني، أن الطريقَ ليست مفروشةً بالورود، وأن العمليةَ التفاوضيةَ في ظل تكالُبِ المجتمع الدولي على اليمن، مغامرةٌ محفوفةٌ بالمخاطر، ومع ذلك فإن الإحجامَ لن يكونَ بلا ثمن أيضاً.
من هذا المنطلق وبالرغم من هذه التحديات وما صاحب المفاوضات من مؤشرات مزعجة، استطاع الوفدُ الوطني أن يخترقَ الجدارَ العازل، من خلال اللقاءات الديبلوماسية والسياسية، بأمير الكويت ووزير خارجيتها، وبسفراء الدول الثمانية عشرة، وباللقاءات الثنائية، التي شجّعت الوفد في المضي على طريق التعاطي الإيجابي مع فرصة الكويت دون تنازُلٍ عن الثوابت الوطنية، فجاءت رؤيةُ الحل السياسي والأمني التي طرحت على طاولة الكويت، لتدللَ على الحرص والمسئولية الوطنية التي يتحلى بها أنصارُ الله والمؤتمر الشعبي في هذا الظرف الدقيق والتأريخي.
ولأن المؤمنَ لا يُلدَغُ من جُحر مرتين، فقد تنبَّهت الرؤية لمخاطر الخداع، وتحوَّطت للثغرات التي يمكن التسلل منها، فأكدت على ضرورة التعامل مع مختلف الاتفاقات الجزئية كحُزمة واحدة، بحيث تخرجُ مفاوضاتُ الكويت بخارطة طريق تحدد معالمَ الفترة الانتقالية، والتوافق على سلطة تنفيذية تُديرُ المرحلة المقبلة، وتضع حداً نهائياً لمأساة اليمن، بما في ذلك انسحاب كل القوات الغازية لليمن، ورفع اليمن من الفصل السابع للأمم المتحدة. وقبل ذلك رفع الحصار ووقف العدوان.
لقد ساعدت هذه الرؤية المنطقية والواقعية الوفد الوطني على التحكم في إيقاع المفاوضات حتى الآن، وبفضلها يمكن القول: إن مسارَ الحل السياسي بات وشيكاً، ما لم تحدث مفاجآتٌ خارجَ سياق المعطيات المتوفرة.
ومن إيجابيات رؤيةِ المفاوض الوطني أن طروحاتِه جاءت مَرِنَةً في التعاطي مع ما يعتبرُه المجتمعُ الدولي من الثوابت، وخَاصَّةً ما يتعلق بمرجعيات العملية السياسية في اليمن، بدءاً بالمبادرة الخليجية، وانتهاء بقرار مجلس الأمن 2216، الذي يحاول وفد المرتزقة أن يكون وحدَه مرجعاً لمشاورات الكويت.
بهذه المرونة تمكن الوفدُ الوطني من استغلال النقاطِ الإيجابية في المبادرة الخليجية، وفي قرارِ مجلس الأمن، والبناء عليها في دعوته إلى سُلطة تنفيذية توافقية، التي ستؤدي حالَ التوافقِ عليها إلى إسقاط ما يسمى بالشرعية (هادي وحكومته)، وسحب البساط من تحت أقدام العدوان الذي يستخدم هادي وزُمرتُه أداةً للتآمر على اليمن.
وإضافةً إلى الرؤية المتوازنة والمرنة، فإن الوفدَ الوطني يواصل التحدّي على طاولة الكويت، مستنداً إلى عواملَ موضوعيةٍ ذات صلة وثيقة بالميدان، حيث سطّر شعبنا صموداً أسطورياً يجعل وفدنا متخفّفاً من احتمالات فشل المفاوضات، كما أن انتصاراتِ الجيش واللجان الشعبية، وخَاصَّةً في جبهة الحدود، قد جعلت الرياض نفسَها تطلب وتعمَلُ من أجل الحل السياسي، وما مفاوضات الكويت إلّا ثمرة التفاهم المباشر مع الجانب السعودي.
فوق ذلك، فإن تداعياتِ الجنوب، أكدت مصداقية الخطاب الوطني في محاربة الإرهاب وداعش ومختلف المليشيات الإرهابية التي تحاولُ أن تتلفَّعَ أَرْدِيَـةً وطنية، فإذا بالأحداث تفضحها وتعريها.
لا قبولَ بأنصاف الحلول والانكسار غير وارد
على أن التفاؤلَ باقتدار المفاوض الوطني لا يعني أننا على أعتابِ مخرجات مثالية، فمفاوضاتُ الكويت لن تنجحَ دونَ تنازُلٍ من مختلف الأطراف، وستكون الحلول الوسط حاضرةً بقوة في نتائج أعمال مختلف اللجان السياسية والأمنية والإنسانية، وهو ما يعني ضرورةَ الحذَر من الأجواء الإيجابية للمفاوضات، والتي قد تكونُ بمثابة التنويم المغناطيسي لوفدنا الوطني.
بلا تهويل أو تهوين، نستطيع القول وبإيجاز إن التنازُلاتِ من أجل المصلحة الوطنية العليا مطلوبةٌ من مختلف الأطراف، وأن المرونة من أجل الحلول السياسية الواقعية القابلة للدوام مطلوبةٌ من الجميع.
وَمع إدراكنا أن انطلاق العملية السياسية من جديد، ستعني نفخَ الروح في شخصيات ومكونات حزبية، انحازت ضد شعبها ووطنها، إلّا أن وَقْفَ نزيف الدم اليمني يعد أولويةً وطنية بامتياز، شرط إلّا يكون الحل على حساب السيادة والكرامة الوطنية. ومن المهم أن يتوخَّى المفاوضُ الوطني مخاطرَ استمرار عوامل الصراع الداخلي، فالرياضُ وهي تعملُ على الانسحاب من مأزقها في اليمن تجهدُ لأجل تفخيخ اليمن بصراعات داخلية طويلة الأمد.
إن وقفَ العدوان المباشر لا يعني أن تحالُفَ العدوان السعودي الأمريكي قد نفَضَ يدَه من اليمن، لكنه يتحضّر من الآن لأساليبَ جديدة وغير مباشرة، بحيث يحصل بالعملية السياسية ما لم يتمكن من الوصول إليه عبر القوة العسكرية. وهذه بديهية يعرفُها وفدُنا المفاوض، لكن ما يجب أن تعرفه الرياض أن فشلَ هذه المفاوضات يحتم علينا الانتقالَ إلى المرحلة الثانية من الخيارات الاستراتيجية برسم رجال الله وقائد الثورة.
لا انكسارَ ولا استسلام، جاهزون للحلّ ومنفتحون عليه.. بهذه المتلازِمة والمعنويات يحارب وفدُنا الوطنيُّ في جبهة السلام، وعلى الباغي تدور الدوائر.