«الحراك الجنوبي» ينتقم من نفسه: هكذا ابتلع «القاعدة» الجنوبيين
ساعدت هشاشة «الحراك الجنوبي» وانقساماته على جعله لقمة سائغة أمام «القاعدة». التنظيم المتطرّف استطاع الهيمنة على تيارات جنوبية أولها المجموعات المؤيدة للرئيس علي سالم البيض، مستفيداً من تحالف الحزب الاشتراكي مع «الاصلاح»
عبدالفتاح حيدرة
صنعاء | يعود دعم تنظيم «القاعدة» لـ «الحراك الجنوبي» إلى منتصف عام 2009، حين أعلن زعيم «القاعدة في جزيرة العرب»، ناصر الوحيشي، دعم الحراك، وخاطب الجنوبيين بتسجيل صوتي قائلاً: إن ما تطالبون به «حقكم كفله لكم دينكم. فلا يمارس باسم الحفاظ على الوحدة الظلم والقهر والاستبداد»، معتبراً «ان الوحدة من صنع الشعب كافة، وليست حكراً على شخص». بهذه الكلمات بدأ «التقارب» بين «الحراك» والتنظيم، ما مكّن «القاعدة» من اختراق «الحراك الجنوبي» مستغلاً بعض تياراته ومجّنداً أفراداً منه لمصلحته (ولا سيما جناح الرئيس الجنوبي السابق علي سالم البيض) ضد نظام الحكم آنذاك.
في تلك الفترة، وعلى الرغم من أن الهدف المعلن للجنوبيين هو استقلال دولتهم عما يسمونه «الاحتلال الشمالي»، إلا أن الوحيشي رأى أن ما يقوم به أهل الجنوب ليس دعوة للانفصال بقدر ما هو دعوة «لرفع الظلم». ولم ينسَ أن يذكّر أصحاب «الحراك» بأنهم «جربوا جميع المناهج»، في إشارة إلى حكم الحزب الاشتراكي، لكن «لا عدل ولا حرية إلا في ظل الإسلام»، بحسب الوحيشي الذي أكد أن «الإسلام ليس فيه شمالي وجنوبي».
كانت هذه هي الرسالة الاولى التي وجهها «القاعدة» لـ «الحراك» الذي ابتلعت بعض تياراته الطعم بإيعاز وترتيب من قبل إعلام أحزاب «اللقاء المشترك» حينها، وهي رسالة لم تتوقف على أثرها الاتهامات للجنوبيين بأنهم يؤوون «القاعدة»، ما جعلهم يقفون موقف الدفاع لرد الاتهامات حتى لا تستغلها سلطة الشمال وتشرع في التسويق لكون الجنوب «واحة القاعدة». لذا، نفى زعماء المحافظات الجنوبية بصورة قاطعة أي علاقة تربطهم بالتنظيم المتطرّف، وكان نفيهم ينطلق من أن حراكهم «السياسي السلمي» لا يتفق مع «القاعدة» المسلح الذي لا حدود لطموحاته. فبالنسبة لهم، إن أجندتهم تضم: «وطنا يمتد من ضربة علي في شرق المهرة إلى جزيرة ميون وأرخبيل حنيش في البحر الأحمر غرباً، ومن أرخبيل سقطرى جنوباً إلى سناح وأعالي ثمود شمالاً».
أدى الحزب الاشتراكي الدور الاكبر في تماهي «الحراك» مع «القاعدة» نكاية بنظام صالح
وهو ما لم يخالفهم فيه كثير من المحللين والمتابعين لشؤون «القاعدة» في اليمن، لا سيما القريبين من حزب «التجمع اليمني للإصلاح» الذين يتساءلون: «هل يعقل أن البيض الأقرب إلى اليسار المتشدد يدعم القاعدة أو تدعمه؟»، معتبرين اتهامات النظام بالتحالف بين التنظيم الإسلامي الجهادي وقوى يسارية «لا يمكن أن يقبلها العقل ولا المنطق»، مستنكرين محاولات الدولة «إلصاق القاعدة بالحراك الذي دائماً ما تطلق عليه (الحراك القاعدي)».
كان «القاعدة» يخطط بصورة منهجية لاستغلال «الحراك الجنوبي». هذا التخطيط اتضح شيئاً فشيئاً بصورة تثير التساؤلات. وكان السبب الصادم والمؤلم للقوى اليسارية التي تبنت فكرة ومنطوق وحركة «الحراك الجنوبي» هو تقارب الحزب الاشتراكي من حزب «الإصلاح».
هذا التقارب هو الذي ضلّل «الحراك الجنوبي» ودفعه إلى التماهي مع مخططات تنظيم «القاعدة»، نكايةً بنظام الحكم آنذاك، لسببين اثنين. السبب الأول، أن الاشتراكي هو الوعاء الأساسي للقضية الجنوبية. السبب الثاني، أن «الحراك الجنوبي» هو الوعاء الثانوي لعودة الحزب الاشتراكي للجنوب.
ومن خلال هذين السببين، دخل حزب «الإصلاح» اللعبة بذكاء واستغل خوف قيادات الحزب الاشتراكي من عمليات تنظيم «القاعدة» ضد الحزب الذي كان «ملحداً وكافراً» بنظره. خوف قيادات الحزب من عمليات المتشددين ضدهم لم يأتِ من فراغ فهو الحزب اليمني الوحيد الذي تخصص «القاعدة» و»مجاهدي أفغانستان» وجيش اللواء الفار علي محسن الأحمر بتصفية كوادره أو إخفائهم واختطاف أبنائهم منذ عام 1993 وحتى «ثورة 11 فبراير» عام 2011، وصولاً إلى دخول قوات احتلال «التحالف» عدن في تموز الماضي.
لعب الحزب الاشتراكي الدور السياسي الأكبر في تماهي «الحراك الجنوبي» مع تنظيم «القاعدة» نكايةً بنظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح، بالتزامن مع الدور الإعلامي الملحوظ لحزب «الإصلاح» في نفي التهمة عن «الحراك» واستخدام منظمات المجتمع المدني لتبني قضيته كقضية سياسية وانسانية، وفي الحقيقة كان هذا التبني الاعلامي والسياسي تبنيا من قبل حزب «الاصلاح» لـ «القاعدة» وليس لـ «الحراك الجنوبي».
هذا ما أثبتته حكومة المحاصصة بعد عام 2011، إذ جاء دور «الحراك» ليصعد على سلم الحركة السياسية بعد سقوط نظام صالح الذي بسببه أنشئ «الحراك». فتفاجأ الجميع بصعود تنظيم «القاعدة» بدلاً منه، بدايةً في تشكيل جماعة منفصلة عن «القاعدة» تسمى «أنصار الشريعة». هذا التنظيم دخل، بشعار وأحكام «القاعدة»، محافظة أبين وأقام إمارة «وقار» لمدة سنه كاملة. وآنذاك، كان «الاشتراكي» حليفاً لـ «الاصلاح» ضمن تكتل أحزاب «اللقاء المشترك» وفي حكومة المحاصصة والمشاركة.
بعد ذلك، جاءت مرحلة الحوار الوطني ليأتي «الحراك» مستنسخاً من قبل عبد ربه منصور هادي الذي اتفق مع الشيخ الاصلاحي عبد المجيد الزنداني اتفاقاً رسمياً لخروج «أنصار الشريعة» من أبين أو إشراكهم في الحوار. هذا الأمر دعا إلى تدخل الولايات المتحدة الأميركية التي اقترحت على هادي محاربة «القاعدة» شكلياً في أبين كي لا يظهر أن هادي يحاور «القاعدة» وهو حليف لأميركا التي ترسل طائراتها («درونز») لقتلهم. كل هذه الأحداث أثبتت أن «الحراك الجنوبي»، كان مجرد لعبة بيد حزب «الإصلاح» فقط لتوسع نفوذ تنظيم «القاعدة». وعندما انتهت مرحلة المحاصصة والتقاسم في عهد هادي، خرج الحراك «من المولد بلا حمّص»، منتظراً أن ينتهي الحوار الوطني، حتى طالب الجميع بتشكيل الحكومة فيما تم توقيع اتفاقية «سلم وشراكة» التي فرضتها «أنصار الله» ليتسنّى لـ «الحراك الجنوبي» التعويض في التشكيل الحكومي المقبل، ولكن هادي و»الإصلاح» كانا قد تمكنا من السخرية من «الحراك الجنوبي» وتجنيد أعضائه بالاضافة إلى صمت غالبية قيادات الحزب الاشتراكي، ترهيباً وترغيباً، فمن كان يرتفع صوته في «الحراك» أو في الجنوب يتعرض للاغتيال والقتل والتمثيل والتشهير.
كل ذلك، دفع بـ «الحراك» إلى الخروج كوليد مشوه لفكرة التحرر والاستقلال، باحثاً عن الانتقام الكلّي من الكل وضد الكل، حتى وصل ليكون ضدّ نفسه. حاول «الحراك» الانتقام من النظام السابق لظلمه، فجاء انتقامه الأول من مشروعه هو، ومن فكره وعقيدته الأولى: التحرر. وحين وصل الاحتلال الإماراتي والسعودي إلى عدن، وبدلاً من وقوف «الحراك» بوجهه كان الحراك مهيّأً تهيئة كاملة للترحيب بالاحتلال مع أنه صاحب الفكرة الأولى للتخلص من الاحتلال، إبان الغزو البريطاني.
إنها مفارقة غريبة، وقد تكون وليدة التضليل الذي مارسته قيادات الحزب الاشتراكي على «الحراك» سواء تلك القائمة على الحزب في الداخل أو تلك التي أرادت لنفسها المنفى في الخارج. وتمكّن «الإصلاح» وأدوات السعودية من وضع «الحراك الجنوبي» بين مطرقة «القاعدة» وسندان العمالة، لتكون الجغرافيا الجنوبية اليوم بلا هوية وبلا مشروع.