«عاصفة الحزم» بين المكابرة والمراجعة
السؤال الكبير الذي يطرح نفسه اليوم بعد إعلان الرياض وقف عملية «عاصفة الحزم» في اليمن، وإطلاق عملية «إرادة الأمل»، هو هل نحن أمام مراجعة جريئة وشجاعة لمجمل سياسات الرياض في المنطقة بعد أن وصل العدوان على اليمن إلى ما وصل إليه سواء من حقائق ووقائع وتحولات جيوسياسية، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي.
أولى هذه الحقائق والوقائع والتحولات أن إرادة الشعوب لا تقهر ولا تكسر، وأن المال مهما تعاظم سلطانه، ومهما تمكن من شراء أصوات أو إسكاتها، ومهما تمدّد لنفوذه مستغلاً الأوضاع الاقتصادية البائسة لدول وشعوب وجماعات وأفراد من أجل دفعها إلى السير عكس مصالحها وإرادتها وعلى حساب كرامتها واستقلالها.
وثاني هذه الحقائق أن الإقليم بأسره، بل العالم كله، قد دخلا مرحلة جديدة من موازين القوى، ومن تحوّل في العلاقات، على نحو يفرض نفسه على سياسات وقرارات كان من الممكن اعتمادها بسهولة في ظروف سابقة، فيما يستحيل اليوم إقرارها وتنفيذها.
فالكيان الصهيوني لم يعد في موقع يسمح له أن يغيّر واقع، وأن يسطر معادلات في الإقليم، كما كان الأمر في عقود سابقة حين كان بعض حكام المنطقة يندفعون في هذه السياسة أو تلك، وفي وعيهم، ولا وعيهم أيضاً، أن هناك قوة «عظمى» رابضة في قلب المنطقة يمكن أن تتحرك لتغيير المعادلات وقلب الموازين، وهو ما رأيناه في حرب 1967 حيث استفاد العدو من إنهاك مصر في حرب اليمن آنذاك، لينزل ضربة قاسية بحق قيادتها الوطنية وقواتها المسلحة في آن، وهو ما رأيناه أيضاً في حرب 1982 في لبنان حيث تم الإجهاز على الثورة الفلسطينية وحلفائها في لبنان بعد إنهاكهم في حرب داخلية استمرت سبع سنوات.
لم يعد الكيان الصهيوني إذن قوة حاسمة وفاصلة في المنطقة يتم استدعاؤها «غب الطلب»، كما لم يعد قوة قادرة على رسم السياسات وحماية منفذيها، فهذا الكيان، على رغم كل ما تعيشه الأمة من محن وآلام وتمزق، يعيش بالمقابل ظروفاً صعبة يمكن تلخيصها بحقيقة، تؤكدها كل المتابعات، وهي أن هذا الكيان لم يعد مقنعاً لأعداد متزايدة من مواطنيه، كما لم يعد جذاباً لأوساط متنامية من الرأي العام العالمي، خصوصاً الغربي، كما كان الحال قبل عقود.
ثالث هذه الحقائق أن واقع الهيمنة الأحادية الأميركية على العالم قد بدأ بالتصدع وهو تصدع تلخصه بوضوح حقيقة التباين المتصاعد داخل مراكز القرار في العاصمة الأميركية في أسلوب التعاطي مع القضايا العالمية وهو تباين بدأت معالمه بالظهور منذ تقرير بيكر هاملتون الشهير الذي أصدره عقلاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي عام 2006 حول اعتماد مقاربات جديدة في السياسة الأميركية وأوصل باراك أوباما إلى البيت الأبيض، والذي واجه، ولا يزال معارضة عنيفة من المحافظين الجدد واللوبي الصهيوني، وبعض أركان المركب الصناعي العسكري الذي حذر الرئيس الأميركي الراحل ايزنهاور من مخاطره عشية انتهاء ولايته عام 1961، والذي يمكن أن نضيف إليه عناصر جديدة متمثلة بالاحتكار المالي والمصرفي الذي يتنامى نفوذه داخل المجتمع الأميركي.
ولقد بدأ هذا التباين يبرز بوضوح في ما نراه حولنا من مواقف وتصريحات متعارضة، وحتى متناقضة، صادرة عن المسؤولين الأميركيين الذين لا نستبعد أن يكون بعضهم، الأكثر تشدداً وتطرفاً وغلواً، قد شجّع أصحاب القرار في الرياض على إطلاق «عاصفتهم»، ليلتقط البعض الآخر، الأكثر عقلانية، ارتباك هذه «العاصفة» وارتطامهما بصمود اليمنيين، وتخلي الحلفاء المعقود الأمل على مشاركتهم، لينبري في إعلان مواقف تنتقد «الغلاة» في الرياض وتذكرهم على لسان أوباما نفسه أن «الخطر عليهم ليس من إيران، واستطراداً ليس من اليمن بل من الشباب داخل بلادهم والمحرومين من فرص العمل و «الأمل» والمشاركة.
أما الحقيقة الرابعة فهي أنه قد يكون للمال السعودي سطوته الساحرة على كثيرين، ولكن هذه السطوة سرعان ما تتبخّر حين يصبح الأمر متعلقاً بالموت والحياة، فمن يحبّ المال يحبه للتنعم به في الحياة، وبالتالي ليس مستعداً للموت من أجله.
ولعل في دوائر القرار في الرياض أسئلة تطرح بقوة اليوم عن موقف البرلمان الباكستاني، وعن تركيا التي تحوّلت من «شريك» إلى وسيط، وعن موقف القيادة المصرية، التي لم تدرك الرياض حتى الآن، أن أبرز ما تعتز به هو «استقلالية» القرار المصري، وهي استقلالية تجعل القاهرة حريصة على الانفتاح على جميع القوى في الوطن العربي والإقليم والعالم، ولكنها حريصة على أن لا تزج قواتها المسلحة في حروب خارج بلادها، وربما ينسى القيمون على اتخاذ القرار في الرياض أن ما عجل في سقوط حكم الرئيس محمد مرسي في 30 حزيران 2013 هو خطبته «الجهادية» في ستاد القاهرة قبل أسبوعين على السقوط، ودعا فيها جيش مصر وشعبها إلى الجهاد في سورية فرّد عليه الجيش المصري فوراً، برفض هذه الدعوة، ثم كان ما كان.
أما الحقيقة الخامسة هو أن القيمين على الأمور فيها قد ظنوا أن عطش الأمة إلى صحوة عربية بعد أن طال الظلام عليها والظلم، وإلى مشروع عربي يوازي المشاريع الإقليمية الصاعدة، قد يمكنهم من تعبئة العرب جميعاً، ومعهم العديد من المسلمين، وفي مغامرة يكفي أن يكون عنوانها «مذهبياً» ضد الشيعة أو «قومياً» ضد إيران، ولكن لم يدرك هؤلاء القيمون على القرار السعودي، أن الصحوة العربية لا تقوم على خطاب الانقسام المجتمعي والتحريض المذهبي، لأن العروبة أساساً هي الهوية الجامعة التي لا تتنكر لأي من مكونات الوطن العربي الكبير، دينياً كان أم مذهبياً أم حتى قومياً من الأقوام التي تساكنت مع العرب مئات السنين وشاركتهم ثقافتهم، وحضارتهم وكل مواجهاتهم مع أعداء العروبة والإسلام.
وتناسى هؤلاء أيضاً أن المشروع العربي، وهو مشروع استقلالي نهضوي حضاري بالأساس، لا يقوم إلا عبر مواجهة العدو التاريخي للأمة وهو العدو الصهيوني والاستعماري، كما لا يقوم إلا عبر مشروع تنموي عربي مستقل لم تصرف الدول العربية النفطية عليه نسبة ضئيلة مما أنفقته في تمويل حروب الداخل وخزائن الخارج، كما لا يقوم المشروع العربي المنشود إلا عبر علاقات ديمقراطية تشكل حقوق الإنسان القلب منها، وهي علاقات ما زالت دولنا العربية عموماً، وخصوصاً النفطية منها، محرومة منها.
وتناسى هؤلاء كذلك أن «العروبة» كانت على مدى عقود هي الهدف الأول لحملات المنظرّين والمحللين والكتّاب اللاهثين وراء «البترودولار» وقد نعى الكثير منهم «العروبة» بعد كل نكسة أو هزيمة مرّت بالأمة العربية، كما تناسى هؤلاء في مجال تحريضهم ضد «الشيعة» و «الفرس» و «الصفوية» و «المجوس» أن جمال عبد الناصر المحفورة سيرته في وجدان الأمة وضميرها وذاكرتهم قد تعرض لحروب ومؤامرات وحملات منهم، على رغم أنه كان «مصرياً» «عربياً» «مسلماً» «سنياً». بل كان وراء اعتبار المذهب الجعفري أحد المذاهب التي تدّرس في جامعة الأزهر.
الحقيقة السادسة أن الذين كانوا يحرضون الرياض وغيرها على إيران، مستفيدين من دون شك من أخطاء وخطايا في الممارسات والتصريحات ارتكبها بعض المسؤولين الإيرانيين، باتوا اليوم في موقع الإقرار بصعوبة تجاوز إيران في كل الملفات الإقليمية، بل وباستحالة إسقاط نظامها.
فقبل «عاصفة الحزم» اندفع مسؤولون سعوديون متهورون، وبتشجيع من بعض الأوساط الفاعلة في الإدارة الأميركية، في إطلاق «عاصفة» من المواقف والتصريحات ضد الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب، فقادهم اندفاعهم وتهورهم إلى تصويب نيرانهم على إدارة أوباما نفسها التي على ما يبدو تمهل ولا تهمل خصومها في الداخل والخارج، فأخطاء هؤلاء الحسابات مجدداً إلى درجة أن بعض المحللين رأوا في تشجيع واشنطن للرياض على غزوتها اليمنية فخاً انتقامياً من المملكة التي تميّزت العائلة الحاكمة فيها في ظروف سابقة بقدرٍ من الحكمة والتوازن فطال عمرها أكثر من ثمانية عقود.
لقد أدى تجاهل أهل «عاصفة الحزم» لهذه الحقائق والوقائع إلى حسابات مرتبكة، وإلى تقدير خاطئ للموقف، فكانت لهم «عواصفهم» في ليبيا والعراق وسورية والبحرين وصولاً إلى اليمن، فجاءت النتائج مخيبّة «للآمال» و «التوقعات» التي روّج لها «مستشارون» و «خبراء» و «إعلاميون»، وشجع عليها كل من لا يريد الخير للعرب.
وبهذا المعنى، مع احتمالات توقف «عاصفة الحزم» عسكرياً، هل تقوم القيادة السعودية في الرياض بالمراجعة الجريئة والصادقة للقرارات المتخذة، وبجردة حساب يقوم بها كل عاقل إثر كل محطة من محطات مسيرته، أم أن «المكابرة» ستبقى متحكمة بالمواقف والسياسات فتقود إلى المزيد من الكوارث على الأمة، وعلى المكابرين أنفسهم.
فهل «يبشرنا» خطاب المندوب السعودي في الأمم المتحدة قبل يومين من الإعلان عن وقف «عاصفة الحزم»، «بعاصفة حزم» جديدة ضد سورية وكأن ما جرى في سورية منذ خمسين شهراً لم يكن «عواصف حزم» متواصلة تسعى لاستكمال أهوال «أم العواصف» التي هي «عاصفة الصحراء» الأميركية الكبرى ضد العراق، أم أنه محاولة لصرف الأنظار عن الفشل في اليمن من خلال الإيحاء بمعارك جديدة .
مثل هذه التصريحات وما يرافقها من ترويج وتحريض، يكشف أن منطق «المكابرة» ما زال يهيمن على أصحاب القرار في الرياض، وهو منطق يتجاهل جملة الحقائق والوقائع التي أوردناها في البداية، مضافاً إليها أن دمشق بشعبها وجيشها ودولتها هي قلعة صلبة، وميدان سقوط كل المشاريع والأحلاف والمخططات العدوانية.
المكابرة هي وليدة الإحساس بفائض القوة الذي كثيراً ما قاد أصحابه إلى التهور والاقتتال والتقديرات الخاطئة، وهو إحساس لا يزول إلا بالمراجعة المستمرة، والتفاعل مع رأي الآخرين، وهي مراجعة مطلوبة من الجميع.
المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية